الشهيدة رجيحة في ذاكرة التاريخ
الشهيدة رجيحة.. بقايا دموع من مآقي ذاكرة عراقية، لأنها ومع كونها عَبرة، فهي عِبرة وتذكرة...لكن أروع السطور، ما كان عداها الدم العبيط، وأن الحبل الذي طال أبناء العراق هو ذات الحبل الذي طال أعناق فتيات (بنت الهدى).من حقنا نحن أن نرسم انتصاراتنا قبل أن يخطها.. الخانعون هزيمة في عيون بناتنا بالرغم من أمواج الفتن التي هاجمتنا لكن زورق الشهادة الذي عقد، العزم على الوصول إلى شاطئ العز.فتعالي يا أختي المؤمنة، فأنت مدعوة إلى ضيافة مائدة الروح حيث نسائم الروح.. ولو قليلاً.
بغداد.. مدينة المشانق...
كانت المشانق وساحات الإعدام في تلك السنين العجاف.. - سنين الثمانينات - فترة دموية قل نظيرها في تاريخ شعب العراق، بل لا مثيل لها إطلاقاً على مستوى الأمم الأخرى، إنها حملات مسعورة قام بها ذئاب البعث.. آنذاك حيث السجون السرية والعلنية، كان سجن أبو غريب يلتهم الخيرة من الصالحين.نهاية البداية..
في شتاء عام 1983، حيث خيم الموت على قاعة الموت الملثمة بالسواد، والتي تسمى بقاعة (محكمة الثورة) العسكرية، والتي يرأسها (عواد محمد أمين البندر) وفي قفص الاتهام جثمت (60 ضحية) ومن بينهم ثلاث فتيات:- إعدام فوري: وهنَّ المهندسة رجيحة، والأستاذة ابتهاج، والدكتورة سكرية وتسع فتيات.- إعدام مخفف (مؤبد): هنَّ.. نادرة الشبلي، أحلام الشبلي، وسهام علي وطليعة، وطبيعة، وناجحة..الخ.جميعهن من سكنة بغداد الكاظمية وقد سميت ملفاتهن ب(قضية بنات الكاظمية) هنَّ زينبيات في عمر الورد شربن من فرات كربلاء، فتح لهن المستقبل أوسع أبوابه، ورغم ذلك كن يتهافتن على الشهادة.فتعالي معي - قارئتي العزيزة - لنرتشف قليلاً من كأس الشهادة المترع من نبع كربلاء... ولتكن هذه المرة الشهيدة..رجيحة..الشهيدة في سطور..
الاسم: رجيحة كاظم المسلماوي، مواليد 1954، لم تتجاوز العقد الثالث، خريجة جامعة بغداد.. كلية الهندسة.. قسم المعادن.والدها الشيخ كاظم (إمام جماعة في المسجد الكائن في شارع الزهاوي - الحرية الثانية)ذهبت مع أبيها إلى بيت الله الحرام.. وبعد 4 سنوات اضطرت لترك الوظيفة لتتخلص من مضايقات أزلام النظام للتفرغ للعمل الإسلامي.كانت التهمة: الانتماء إلى أحزاب المعارضة الإسلامية - حيازة وحمل السلاح، تاريخ الاعتقال (5/8/1983م).جهة الاعتقال: مديرية أمن الكرخ، مادة الحكم (156 - أ) على يد المجرم (عواد البندر) رئيس محكمة الثورة العسكرية.تاريخ الإعدام: (9/4/1984م) في أبو غريب، قاطع الإعدام - قسم الأحكام الثقيلة.الشهيدة.. نشأة وسلوكاً
ولدت الشهيدة في أحضان العلم والفضيلة، في بيت ذات جاه وماض رسالي عريق، ومنذ صباها ترفض حياة الذل والانزواء.. كبرت رجيحة في تلك الأجواء الدينية حرصت على حضور دروس وإشارات الشهيدة بنت الهدى - رضوان الله عليها-.لازمت مجموعة من النساء الرائدات كالشهيدة سلوى البحراني (أم سعد) التي أعدمت عام (1980م) لم تترك صلاة الليل، قليلة الكلام، كثيرة العمل، إذا نطقت أوجزت.. كانت مصداقاً للحديث الشريف (المؤمن حزنه في قلبه، بشره في وجهه) كانت كلماتها بلسم في جروح المتعبين..عملها الرسالي:العديد من المجاميع النسوية يعملن تحت مشورتها ويتحركن بإرشاداتها، فهي من النخبة الأصيلة التي تمتاز بكفاءة وتخطيط، لم تكن تهتم بمفاتن الدنيا، الكل يتذكر كلماتها التي كانت ترددها: (اطردن الدنيا من قلبكن، فهي ليست دار أولياء الله).العديد من العمليات الجهادية تمت على يديها بكل دقة وكتمان.. فهي من رائدات العمل الجهادي النسوي في عراق بنت الهدى، فلقد مثلت ببطولاتها بعض أمجاد بغداد المنسية.كانت منذ بداية السبعينات بين الحين الآخر تأخذ المجاميع النسوية والفتيات الجامعية إلى النجف الأشرف للالتقاء بالعلية (بنت الهدى).كانت في مسيرتها الرسالية نموذجاً يقتدى به، فالوعي الرسالي طغى على سلوكها كان لها دور رئيسي في إيجاد طليعة نسوية واعية في مناطق مختلفة من بغداد وبالخصوص في منطقتي الكاظمية والحرية.. فإنها تعد من النخبة النسوية الرائدة في مشرع الشهيدة (بنت الهدى -رضوان الله عليها-).من كلماتها الخالدة.. (إن الحياة لمسؤولية، وإن العمر لأمانة، وإن الدين لرسالة).وأقسمت أن تعمل كل ما في وسعها حتى نيل النصر أو الشهادة، بيد أنها كانت تبحث عن ثمن باهظ لاستشهادها.المحن.. تصنع أبطالاً..
إنها لم تكن أو تهدأ حزناً على مقتل السيد الصدر وأخته العلوية بنت الهدى ومقتل خطيبها في عام (1980) وفي العام (1981م) سلمت جثة أخيها بلا عيون كل ذلك لم يوهن من عزيمتها، بل زادها إصراراً وعطاءاً في دربها اللاهب.كانت هادئة ولكن خلف أهدابها يكمن ألف جرح..اعتقال رجيحة استئصال منارة رائدة..
وفي عام (1982م) بسبب تقارير الرفاق البعثية، وبعض الاعترافات التي كشفت نشاطها وعلاقتها ببنت الهدى استيقظت عيون النظام على دروها الريادي، فحاولوا تصفيتها واستئصالها وحينذاك فقط ودّعت (رجيحة) أهلها بشوق متقد، حيث خرجت من البيت إلى حيث اللارجعة..حيث تم تطويق البيت ليلاً وبشكل مرعب واقتحمت الضباع الدار بعد أن تسلقوا جدرانه لقد تم تفتيش الغرف بطريقة همجية، وكانوا يصرخون، أين الخائنة، أين العميلة؟.كان الشرر يتطاير من عيونهم، والحقد الأسود من قلوبهم، وهكذا تهيأت الذئاب للانتقام، ولبس الجّلاد (علي) أحقاده الدفينة ضد الحاجة (راجحة) وانهال الجميع عليها ضرباً بالهراوات والكيبلات وهم يصرخون فيها: يا بنت ال (...)، أما هي فقد سبحت بدمائها صامدة إلا من ذاك الأنين المرّ.. كانت ساعات سوداء مظلمة وما هي إلا بداية المشوار في رحلة العذاب الطويلة...الشهيدة في غرف التعذيب..
في صباح اليوم التالي أدركت البطلة الشهيدة (رجيحة) ما ينتظرها من عذاب، فاستعدت للمعركة، إنها معركة بين الذات والايثار، هنا وقف التاريخ مصغياً لما سيحدث..بدأ الجلاد (علي) يكشر عن أنيابه التي يسيل منها الصديد، في إفراغ حقده وكيبلاته على جسدها وتوالت الضربات أقسى وأعنف وهو يصرخ بها كالذئب الجائع بعد أن عرف أنها (رجيحة) فأحال جسدها الرقيق إلى مساحات سوداء من كثرة وشدة الضرب بالخيزران، لقد راهن بشدته وقسوته على استنطاقها وتحريك لسانها الملحوم، كان يعذبها بصورة جنونية، بعد أن يتعب يأتي أجلاف الرذيلة يتسابقون عليها كالأوباش، وهي تصرخ ولا من مجيب، حتى هوت إلى الأرض بلا حراك جاءوا بها (سحلاً) إلى غرفة النساء هي لا تقوى على الحراك، وعند انتصاف الليل تتحرك (رجيحة) بصعوبة ومشقة لتصلي جالسة وتبتهل إلى الله حتى الفجر، رغم الجسد الواهن والجراح النازفة ما زالت تحمل روحاً كبيرة.كان يوماً آخر..
وجاء الصباح بل يوماً آخر من الجحيم، قطعان من المرتزقة يتوافدون عليها حيث الدمار وموت الضمير ورغم ذلك عجزوا عن انتزاع الأسرار.كانت الأيام صائفة حارة، بدأ جسدها ضئيلاً متآكلاً، كان الجلاد يتشظى غضباً كيف تخدعه فتاة! بل وكيف يعجز عن استنطاقها، لقد تحملت ألواناً من العذاب لا تخطر على بال إنسان، وما يحدث اليوم يتكرر غداً، وهكذا كان يؤتى بها إلى غرفة النساء هزيلة منهكة تئن من شدة الألم، عاجزة حتى عن رسم الكلمات بالشفاه الذابلات.جاهلية النظام.. الرذيلة وذبح المقدسات..
جاهلية النظام هي الرذيلة الخالصة، حيث لم تأمن وحشيهم حتى بنات الأرحام الطاهرة فبعد أن عجزوا عن انتزاع الأسرار عمدوا إلى تعذيب الروح، لأنها الوسيلة الأكثر إيفالاً في تعذيب الصامدات..لقد تم تعرية (الشهيدة رجيحة)، لقد قصموا روحها بتعريتها لأنها قصمت ظهورهم بصمودها، إنهم أزلام مديرية (أمن) الكرخ الذين لا يعرفون للعفة من معنى.نعم.. لقد تم تعليقها بالسقف، حتى أنهم لم يبقوا فيها من ثمرٍ إلا وعبثوا فيه!!.ثم وضعوا قطبي الكهرباء في أذنيها، وفي الأماكن الحساسة في جسدها فكادت تفقد ذاكرتها وعقلها.كانت الكهرباء تهزها كسعفة أغضبتها الريح، جسدها يهتز ويرتعش أمام أمواج الكهرباء، حينها كان أجلاف البعث يتقاطرون عليها ويهددونها بالاغتصاب.بعد أن يتم إخراجها (سحلاً) من غرفة التعذيب وبسبب قوة الكهرباء كانت (رجيحة) تغيب عن وعيها وتفقد ذاكرتها، مما جعلها أحياناً لا تعرفنا فعندما تحاول بعض الأخوات إعادة خمارها المتدلي من رأسها وترتيب ثيابها كانت تدفعهن بوهن، وتمنعهن بتوسل، مبك.. قائلة تلك الكلمات (عفيه إشد تسوون! هاي ليش؟ منو انتو؟ أرجوكم اتركوا ثيابي!) كانت صعقات الكهرباء القاسية تلتهم صوتها، وجعلت منها جسداً متآكلاً وروحاً مذبوحة وحبات من العرق تلألأ على جبينها.كلمات من شذى..
عند الليل تصلي (رجيحة) تبكي قانتة قائلة بانكسار: (إلهي أكاد أشم رائحة الجنة تعطر أنفي ولكن متى يا رب؟ لقد تعبت أكاد أضعف وقد أبوح بالأسرار! ) كانت دموعها تسيل هادئة حزينة.؟.وتزداد عليها موجات التعذيب بالكهرباء وتتصاعد، وهي عارية معلقة في سقف السجن كل يوم، لقد فتكوا بالروح والجسد، وهي تئن بطريقة تجعل الصخر يصرخ.. كاد الموت يغزوها كل يوم عدة مرات، وهكذا أمست الشهيدة (رجيحة) جثة هامدة لا حراك فإنها في سكرات الموت.نعم لقد اعترفت الشهيدة وتم استنطاقها وياله من اعتراف باهظ وثمين، لقد انتزعوا الأسرار منها بعدما نزعوا كل ما عندهم من معاني الشرف والإنسانية، وهكذا جيء بها إلينا وهي ترقب الوجوم بأطراف الشعور، وكثيراً ما كان يغمى عليها وهي جالسة بيننا.كأنه تأنيب لضمير يبكي (رجيحة) كثيراً هي في هدأة الليل - إنه البكاء الواعي- وهكذا انتهت رحلة العذاب في جحيم مديرية (أمن الكرخ).وبعد أن استعادت بعض صحتها في الأشهر الأخيرة كانت تقرأ دعاء كميل وزيارة عاشوراء حفظاً كل ليلة جمعة، كانت تواسي السجينات الجدد وتقوي روحيتهن على الصبر والصمود وفي تلك الفترة نظمت قصيدة رائعة باسم (شكوى إلى صاحب الزمان).رجيحة والطريق إلى الشهادة..
تم نقل البطلة إلى مديرية الأمن العامة - الشعبة الخامسة - بقيت فيها (45 يوماً) حيث عادت الكيبلات والهراوات تهوي على جسدها، لا لشيء إلا لملأ فراغات الملف - على حد التعبير- قبل إرساله إلى المحكمة وقد أشرف على تعذيبها الرائد الجلاد (عامر) والملقب ب(الذيب) وبهذا الشكل أغلق الملف ثم أحيل إلى محكمة الثورة العسكرية، ليحكم عليها المجرم (عواد البندر) بالإعدام الفوري (شنقاً) وبعدها أرسلت إلى سجن الرشاد ببغداد حيث تنتظر تنفيذ الحكم.وبعدما وصلت إلى سجن الرشاد، سجنوها في (غرفة المحكومات بالإعدام) التابعة للقسم الثالث، ولم تبقى فيه غير (25 يوماً)، وخلال هذه الفترة كتبت الشهيدة وصيتها، وتفرغت للعبادة والدعاء وفرغت نفسها من متعلقات الدنيا، حيث أيام العمر معدودة، وكثيراً ما كنا تسمعها تشكر الله على الشهادة..كانت تنام على سجادة صلاتها رغماً عنها بسبب كثرة الإجهاد، تواصل صلاة الليل بصلاة الصبح وعند شروق الشمس تبدأ بقراءة (دعاء الصباح) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك الصوت العذب اللحن الذي يسلب اللب.كانت في الأيام الأخيرة تميل إلى الاختلاء بنفسها، كانت حزينة شاردة، كأن حزنها سرمدي ففي هذه الأثناء تبرعت بعض الأخوات في القسم للتفرغ لتهيئة الكفن وكتابة (دعاء الجوشن وسورة يس) عليه.وفي صباح اليوم التالي جاءت سيارة الإعدام القادمة من سجن أبو غريب تنتظر (الحاجة رجيحة) ورفيقاتها، فاغتسلت غسل الشهادة، وتطهرت من أدران الدنيا، ثم تعطرت بالكافور واستعدت للرحيل، ولكن قبل رحيلها ودعت الشهيدة رفيقاتها بصوتها الثائر: (أخواتي، نحن بنات الزهراء، نحن بنات زينب، فلا تنسونا، لا تنسوا الذين ضحوا في الإسلام).كان منظراً مراً.. بدأ صراخ الأخوات -السجينات- يتعالى من النوافذ، وفاضت العيون دمعاً حزناً عند الباب الكبير تعانقت أيادي الشهيدة السعيدة (رجيحة) مع الشهيدات (ابتهاج وشكرية).إعدام رجيحة..
خرجت رجيحة من الرشاد وانطلقت إلى حيث سجن -أبو غريب- ظهراً وبعد الغروب تقدمت البطلة إلى المشنقة وارتقت حبال قاطع الإعدام النسوي، قسم الأحكام الثقيلة - بعد أن وضعوا (الكيس الأحمر) على رأسها، وبعد ثوان تأرجحت الشهيدة وانتهت رحلة العذاب إلى حيث رحلة النور.بعد أيام تنفيذ الجريمة، تم إبلاغ أهلها لاستلام جثمانها لدفنها وذهب والدها الشيخ لاستلامها فوجد ثلاث فتيات متلفعات بالحجاب والكفن، ممددات في أرض القاعة تعرف على (ابنته) بصعوبة، فقد غيرت جولات التعذيب ملامح جسمها، ومحاسن وجهها، ولطالما كان يحرص والديها من أن ترمقها عيون الحاسدين هي اليوم أمامه بقايا فتاة.وهكذا هوى النجم المهيب تحت التراب لقد غيب وجهاً كان يضيء أملاً وعقلاً ووعياً، إنه وادي السلام العتيد الذي ضم (رفات) أجيال وأجيال من أبطال هذا المذهب المظلوم، فسلام عليكِ يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثين حية.. سلام عليك بما صبرت واحتسبت فنعم عقبى الدار (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.. والعاقبة للمتقين.. ).والسلام عليكم...