في نظر الحسين (ع) الحرب استثناء
لم يكن الحسين محبا للحرب أو متعطشا للدماء فهو ضد ذلك ومع السلام وضد الحرب وقد استخدم كل وسائل النصح والوعظ من أن يتجنب الحرب والقتال لكونه يرى بأن الحرب والقتال حالة استثنائية في الإسلام، وان الإسلام دين اللين والسلم، وحينما وجد نفسه مضطرا لخوض المعركة غير المتكافئة لم يعتمد منهجية الدعاء بدلا من خوض الصراع، ولم يكل الأمر لغيره ليقوم بالمهمة بدلا منه كما يفعل القادة الذين لا يشتركون في القتال خشية الموت، وإنما قام بنفسه بالمواجهة حتى وان كلفه ذلك القتل والشهادة، وقد ضحى بأهله وقدم اعز ولده وأبى إلا أن يرى الله وهو مخضب بدمه ليرتقي للدرجات الرفيعة ويتحول بعمله هذا إلى حجة دامغة لكل من يرضى بالجلوس بدلا من الجهاد سبيلا.
امتاز قائد الثورة، وكل من تحول إلى قربان من أجل انجاز الثورة وتحقيقها، امتازوا بقوة الإرادة والجلد والصبر، وكانت عزائمهم أكبر من أن توصف، وكانت قوتهم أقوى من قوة الفولاذ الذي لا يلين، وقد قدموا أكبر المثل وأروع الدروس في الشجاعة والإقدام، والتضحية والفداء، وكان المحرك لهم في ذلك كله العزم المدفوع بالبصيرة الإيمانية، واليقين الراسخ بمشروعية نضالهم وجهادهم.
لم يكن في المقوم الأول للثورة وعمادها (القائد) أي نقص أو خلل من حيث الكفاءة العسكرية والخلق والطهر والنزاهة ولا من حيث سلامة أهداف مشروعه وشعاراته وتطبيقاته، بل العكس هو الصحيح تماما..
كل ما يتعلق بقائد الثورة من سلوك وطموح وأهداف وتطبيقات وصل إلى حد الكمال الذي لا يشوبه شيء.لذلك أمر حتمي وغير مستغرب أن يصبح صانع الحدث رمزا ومثالا للاقتداء في أهدافه وطموحاته ومنهجيته وحركاته وسكناته. وان الطرف المقتدي بالمقتدى من علية القوم، وليس من صغارهم.
لا يمكن أن تحدث الثورة بدون كوادر وطلائع فهم خير أصحاب عرفهم التأريخ امتثلوا لقائدهم فيما يأمر وفيما ينهى ففدوه بأنفسهم وراحوا كلهم قرابين من أجله، وسجلوا بذلك أروع المثل في الإيثار والإقدام على الشهادة، وقد ألبسهم قائدهم أوسمة الشرف التي لم ينلها غيرهم لا من قبلهم ولا من بعدهم، ويكفيهم إنهم أصبحوا بعملهم وبتضحياتهم الفريدة ووفائهم الكبير لقائدهم أوفى صحب للصاحب، وقد قال (ع) في مدحهم: لم أرى أهل بيت ابر من أهل بيتي ولا أصحاب أوفى من أصحابي.
الشيعة وتحدي عاشوراء
لم تكن الملحمة الحسينية لظرف زماني أو مكاني محددين، ولو كانت مؤطرة بذلك الحيز لانتهت في حينها، وغابت كل آثارها، واندثرت جميع معالمها، ولم يصلنا من زخمها العاطفي والفكري والنهضوي شيء، ولم تخلق حالة من التموج والتفاعل رغم الفاصل الزمني الكبير بيننا وبينها، ولكن الواقع المعاش يشهد بأن الثورة الحسينية تجاوزت كل الحدود وتأبى التقوقع والانحباس ضمن أطر ضيقة ومساحات محدودة، ولهذا فهي في حالة تجدد وتوسع دائمين، وفي حالة ديناميكية مستمرة لا تقبل السكون.
ما هو ملفت في الثورة الحسينية، وربما يكون ميزة من مزاياها العديدة أن مرور ذكرى الثورة الذي يصادف بداية كل عام هجري جديد يٌعاد إحيائها وفق قوالب جديدة مع المحافظة على أصالتها بحيث يلحظها الجميع وكأنها للتو تحدث رغم مرور أكثر من 1300عام على تفجرها، مما قد يلفت نظر الآخرين الذين يقتربون من أجواء تلك الاحياءات، مع أن الثورة قد حدثت في ذلك الزمن السحيق، وفي بقعة جغرافية محدودة المساحة «كربلاء»، وربما كانت آنذاك منطقة نائية لا ذكر لها ولا اهتمام لها ولا حياة فيها، ولكنها اليوم تصبح في محل اهتمام وجذب كبيرين لملايين من البشر، وقد تحولت إلى أهم بقاع الأرض من حيث الأهمية والتميز والحراك.
وهكذا الحال بالنسبة لتأريخ الحدث وللحدث ذاته فهو أيضا في حالة انتشار وتوسع دائمين يسرعة فائقة تتجاوز الحسابات والتوقعات، وذلك يؤكد حقيقة المقولة: أن كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.
اهتمام أئمة أهل البيت بنهضة الحسين، والتأكيد على ضرورة إحياءها، وكذلك اهتمام أتباعهم بها أعطاها زخما كبيرا للاستمرار والتوسع، وان كانت تقف في وجهها - وعلى الدوام - مجموعة من التحديات والعقبات العديدة والحجب الكثيفة عبر مختلف العصور والحقب الزمنية، وتتفاوت تلك الضغوط على الشيعة تبعا للظروف السياسية والأمنية والظروف الديموجرافية،إلا أن ذلك لم يحول بينها وبين استمراريتها وعطاءاتها، وهذا يعني أن الثورة تمتلك جميع مقومات الاستمرار والصمود مع وجود كل التحديات والضغوطات مما يجعلها تتجاوز الحدود والأمكنة التي استوطنتها،وفي نفس الوقت لديها القدرة على كنس كل العوائق من أمامها مهما بلغت ضخامتها وتعقيداتها.
نحن أمام حدث تأريخي هام، وأمام تحد حقيقي كبير يتمثل في إمكانية تحويل حدث الثورة الماضي المليء بالمأساوية والحزن المختزل للكثير من القيم والأهداف والمعاني السامية إلى مشروع معاصر مليء بالبشائر والخير والانتصارات لتعم فوائده العالم كله؟!
ليس بدعا حينما نقول بأن ثورة الحسين هي في الأساس مشروع نهضة يستصحب معه كل عوامل النهوض والتغيير والإصلاح والتجدد، ويختزل في ثناياه كل أدوات القدرة والحراك من همة، وحيوية، ونشاط،وفاعلية ليسهم بكل فاعلية في بناء واقع الناس جميعهم، وليس في أتباع مذهب معين أو دين محدد، ويمدهم أيضا بالطاقة بحيث تتمكن كل أمة من تجديد واقعها على ضوء إرهاصات ذلك الحدث التاريخي الكبير بعد ان يستنهض وعيها ويبعث فيها وقود الفاعلية بعد استكشاف ثغراتها ونقاط ضعفها، ليفرض عليها واقعا تتهيأ فيه لإعادة بناء ذاتها على أسس زمانية ومكانية جديدة مستلهمة من ثورة الحسين كل عوامل القوة والتأثير والعزم والانتصار.
ذلك التحدي يعد محكا حقيقيا للشيعة لأنهم يرون أنفسهم معنيون بإيصال رسائل الدين بصورته النقية إلى العالم اجمع من خلال مشروع الحسين الذي ثار من اجله، وبالتالي اختزلت حركته المباركة كل معانية، ومن هذا المفهوم فأن عطاءات نهضة الحسين ليست مقتصرة على المسلمين أو جزء منهم وإنما هي لكافة الناس دون استثناء احد منهم، وذلك يتطلب من الشيعة قبل غيرهم أن يبذلوا جهودا كبيرة في إعادة قراءتهم لعاشوراء، ليستخلصوا منها كل ما ينفع الإنسان ويفيده، ويسعون في إيصال أهدافها وشعاراتها وقيمها السامية إلى الجميع بمنطق يفهمه ويقبله الآخر دون الإخلال بالمعاني والقيم السامية التي قامت من اجلها ثورة الحسين،وأن مهمة إيصال كل معاني ومبادئ الثورة بحاجة إلى استخدام واستثمار كل اللغات العالمية الحية، وكل وسائل ووسائط النقل والاتصال الحديثة والسريعة والمؤثرة لكي تصل معانيها وقيمها للجميع دون استثناء، ولعل التطور الذي نشهده في أكثر من ساحة شيعية اليوم في التعاطي الايجابي مع ثورة الحسين في ما يتعلق بقراءتها وطريقة إحياءها وعرضها يعد بداية طيبة وخطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح.
على الصعيد الشيعي المحلي نحن بحاجة إلى تعميم كل مشروع أو فكرة أو فعالية نافعة ارتبطت بحادثة ألطف أو انبثقت منها سواء كانت متعلقة بالإحياء أو بالاستثمار أو بالتوظيف على مختلف المناطق والمدن في بلادنا لينعم الجميع بخيرات وبركات الحسين، وذلك ليس أمرا مستحيلا إذا ما أحسنا الأداء، وهذا لا يعني بالضرورة أن يعمم العزاء واللطم والبكاء الذي قد يكون غير مقبول وغير مفهوم للغير، ولكننا نستطيع أن نجعل من مناسبة الحسين مناسبة وطنية للتبرع بالدم باسم الحسين مثلا كي يستفيد منه كل مواطن ومقيم بغض النظر عن توجهه وانتماءه ومذهبه، وأظن أن هذا الأمر قد تحقق في المملكة العربية السعودية منذ بدأت حملة التبرع بالدم قبل عقد من الزمان، والجميع يعرف أن بنوك الدم في أيام عاشوراء في شرق السعودية تمتلئ إلى حد لا تستوعب المزيد من الدماء، وذلك بسبب كثرة المتبرعين بالدم من أتباع مذهب أهل البيت بفضل عاشوراء وباسم الحسين .
نحن بحاجة إلى ترشيد وإنضاج كل بادرة جديدة جاءت في هذا السياق لكي لا تذهب في مسارات غير نافعة، وأن كل سلوك من شأنه أن يشوه أو يقزم أو لا يخدم مشروع النهضة الحسينية وتطلعاتها- سواء كان على مستوى الوطن أو مستوى العالم- ينبغي أن يكون في محل نقد ومحاكمة ومعالجة سريعة وهادئة لكي يكون النتاج الأبرز والعطاء الأكثر وضوحا للثورة الحسينية هو النتاج النافع للبشرية جمعا كما هي رسالة الإسلام العالمية الخاتمة لكل الرسالات السماوية، وذلك ما يتوافق مع اعتقادنا بأن ثورة الحسين ما هي إلا بمثابة المحرك لتلك الرسالة الخاتمة، والباعث فيها الحيوية والحياة، وبذلك الفعل أصبح وارث كل الأنبياء في حركتهم وجهادهم، وبهذا المفهوم، فأن الحسين يعتبر برسالته وعمله مكمل لذات المشروع الذي جاء من أجله الرسل جميعهم ليس إلا.
إذا أردنا تحويل حدث كربلاء القديم الذي قد يحسبه البعض حدثا عابرا لا يختلف عن بقية الأحداث التي حدثت في التأريخ - أن لم يكن ينظر أليه مادون ذلك -وإذا ما أردنا أن نحوله إلى مشروع حضاري ينتفع منه الإنسان أيضا وبغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ودينه ومذهبه وجغرافيته، فان ذلك يعني أن يكون الشيعة قبل غيرهم أعرف برسائل ذلك الحدث من جهة، ومن ثم يتحملون مسؤولية إيصال تلك الرسائل وخيرات الحسين إلى بقية الناس من جهة ثانية.
المناطق التي تجاوز فيها الشيعة حدود فعالية العزاء المتمثل في اللطم والبكاء المجرد، وبدأت تنفتح على فعاليات إضافية جديدة عاكسة لمشروع الحسين الواسع بصورة أكثر رقيا وتحضرا، ومن ثم تتصدر تلك الفعاليات قائمة الأنشطة والفعاليات المرتبطة بتجديد الذكرى وأحيائها كالتبرع بالدم، والعمل الفني والأدبي المتنوع، والباعث برسائل إيجابية للجميع.
كل هذه الأنشطة والبرامج بحاجة إلى تعميم لتشمل مناطق أخرى جديدة لتغطي أكبر مساحة ممكنة،وهذا يستلزم بالضرورة تواصل أهل المعرفة من أبناء الشيعة مع هذا الحدث بكل فعالياته وتجلياته ليكونوا هم الجسر الناقل لكل تلك الفعاليات وفق قوالب حضارية مقبولة نافعة للجميع.
وفي المقابل ينبغي على أبناء المناطق الأخرى التي تخلوا مناطقهم من هذه المظاهر والفعاليات الايجابية الجديدة والمفيدة، عليهم أن يسعوا لجلب تلك الفعاليات إلى مناطقهم، وإذا نجحنا في تعميمها على مستوى الوطن، وغيرنا أيضا استطاع أن يقوم بذات الفعل، فذلك يعني أننا قادرون على تعميمها على مستوى العالم كله، وان فعل التعميم لن يستغرق وقتا طويلا إذا اطمأن الناس لمشروع الحسين ، ولمسوا فوائده وآثاره.
وبهذا العمل نستطيع أن نقول إننا قد حققنا من ثورة الحسين المكاسب الذي سعى من أجلها قبل استشهاده، وهي مكاسب تتعدى حدود أتباع أهل البيت وحدهم لتطال الجميع،واستطعنا أن نخدم تطلعات النهضة الحسينية ورسالتها الإنسانية، التي كان يتطلع إليها سيد شباب أهل الجنة، واستطعنا أن نخلق من حدث الثورة الماضي، والذي يحسبه البعض حدثا جامدا إلى مشروع حاضر يتجدد في كل عصر بما يتناسب وظروف الإنسان ومكانه، وهذا يعني أن الثورة كمشروع ليس لديه القدرة على الاستنهاض فحسب، وإنما عنده إمكانية البناء الخلاق