الثورة في قلعة سكر :
كانت عندما اندلعت الثورة في « الرميثة » و « أبو صخير » وغيرهما في قرى الفرات الاوسط حاول « الكابتن كراوفورد » حاكم قلعة سكر . السياسي ان يخفف من نشاط الوطنيين في القلعة ، فصمد له بعض المتحمسين واطلق النار عليه ، ولكنه نجا من الموت وطلب الى الحاكم الملكي العام ان يوافيه ببعض الطائرات لارهاب الاهلين ولكن الحاكم اوعز اليه بالسفر الى الناصرية وذلك لحراجة الوضع الذي تعانيه قوات الاحتلال .
وعندما غادر « الكابتن كراوفورد » قلعة سكر من منتصف ذي الحجة 1338 هـ ، عمد الاهلون الى دار الحكومة فاتحلوها ، والى الحرس المحلي « الشبانة » فجردوه من السلاح والى العلم البريطاني فأنزلوه ، واجتمع لفيف من الزعماء والرؤساء ، في جوار القلعة ، في موضع يسمى « المصيفي » ووقعوا هذا الميثاق :
1 ـ المطالبة باستقلال العراق استقلالاً تاماً ناجزاً .
2 ـ المحافظة على المؤسسات الحكومية المفيدة : كالمستشفيات ، والجسور ، وغيرها والانتفاع بها عند الحاجة .
3 ـ اتباع ما يأمر به العلماء المجتهدون .
4 ـ ان تتعهد كل قبيلة بمحافظة الطريق الذي يخترق حدودها ، وان تضمن ارواح المسافرين فيها واموالهم .
5 ـ تأليف هيئة محلية في كل بلد يحتله الثوار تكون مهمتها المحافظة على الامن والسهر على ارواح الاهلين .
الثورة في الشطرة :
كان من اسباب عدم نهوض العشائر في الشطرة بقسطها في الثورة تواطؤ الشيخ خيون العبيد مع الحاكم البريطاني وبطانته .
ويقول « برترام توماس » حاكم الشطرة السياسي : انه لما تلقى الامر بمغادرة الشطرة اصطحب الشيخ خيون العبيد وسائر الشيوخ الموالين الى المطار ومعه قائد الشبانة وخاطبهم بانه سيعود اليهم بعد ان يستتب الامن والنظام ، وانه اودع منصبه الى الشيخ خيون .
ويقول الجنرال هالدن « ان الشيخ خيون لم يصغ لنداء الجهاد الذي اعلنه العلماء ضدنا ، واحتفظ بولائه لنا حتى الاخير » . و « ان جهود الشيخ المذكور كانت السبب الريئسي في عدم توسع الثورة وشمولها لمنطقة شط الحي ولكن وفي هذه الفترة نفسها وصل من النجف « الشيخ محمد نجل المجتهد الشيخ حبيب الله » حاملاً راية خظراء لاستنهاض القبائل فجمع حوله لفيفاً من المسلمين التابيعن لقبائل خفاجة آل ازيرج واهل الشطرة والقرى المجاورة وعسر بهم في « البطيخة وتبعهم جمهور كبير من « البو سعيد» «بني زيد» فمكثوا مع الثوار زهاء اربعة اشهر يهاجمون : الناصرية بين الفينة والفينة دون نجاح .
الثورة في سوق الشيوخ :
لم يكد رؤساء سوق الشيوخ وزعماؤها يتلقون انباء الثورة في الرميثة واطرافها حتى اعلنوا خصومتهم للسلطة الحاكمة فاضطر معاون الحاكم السياسي فيها الى ترك القصبة ، والفرار الى الناصرية وقد اطلقت عليه النار ذات يوم وهو في زورقه البخاري فنجا من الموت باعجوبة ، وتسلم الثوار ادارة القصبة ، ورفعوا العلم العراقي بدل العلم البريطاني على المؤسسات الحكومية وكونوا حرساً محلياً لحفظ الامر على نحو ما فعلوه في قلعة سكر والشطرة ثم جردوا قوة وطنية تمثل سوق الشيوخ والقبائل المحيطة بها وعسكرت في جبهة الناصرية الشرقية لتشديد الحصار على الحامية البريطانية المتجمعة فيها من اطراف اللواء واستمرت في المناوشات معها طوال ايام الثورة على شدة القصف الجوي الذي كانت قد تعرضت اليه .
بوادر فشل الثورة :
لما انسحبت الحاميات البريطانيةوالممثلون السياسيون في قلعة سكر والشطرة وسوق الشيوخ الى الناصرية ، تجمعت حول الناصرية جموع غفيرة من بني سعيد وبني زيد وبني ركاب ولفيف من خفاجة والازيرج وحجام وغيرها ، فكانت هذه الجموع تغير على معسكرات الجيش البريطاني في بعض الليالي وتوقع فيها بعض الاضرار ، ولكن عند انتهاء الثورة في الفرات الاوسط ذابت جبهة المنتفك قبل ان يحدث اي التحام منظم بينها وبين قوات الاحتلال كما حدث في اواسط الفرات ، وعاد الثائرون الى منازلهم لمجرد ان ترامت اليه الاخبار بانصراف اخوانهم ، فاصدرت سلطات الاحتلال في بغداد البيان التالي :
« اشعر حاكم سياسي الناصرية في 17 تشرين الثاني ان الموقف في المنتفك اخذ بالتحسن وقد جاء الينا اربعة شيوخ من البو سعيد في الغراف . وقد كتب لنا موحان الخير الله يقول انه ينتظر ان يسود الامن في الطريق ليأتي الينا . وفاتحنا بالمفاوضة ثلاثة آخرون من كبار الشيوخ التي كانت قرب السكة والزعماء الآن في المدينة يتفاوضون مع الحكومة » .
ويقول ايرلند في كتابه « وعندما ضغطت على امير ربيعة بدفع ما كان مستحقاً عليه من بقايا الضرائب في 1922 افاد بانه كان قد وعد من قبل البريطانيين في سنة 1920 بان يعفى من الضرائب لقاء مساعدتهم في ايقاف انتشار نيران الثورة في وادي دجلة وهو وحده الذي حال دون نشوبها هناك .
الهجوم البريطاني العام :
يقول « الجنرال هالدن » قائد الجيوش البريطانية في العراق ، انه ابرق الى وزارة الحربية البريطانية في لندن ان تأذن له بسحب فرقة كاملة من الهند لاخماد الثورة التي شب اوارها في الفرات الاوسط .
ولما انتهى شهر تموز اخذت القوات البريطانية تتوارد على العراق ، وانتقلت القيادة البريطانية في الوقت نفسه من « كرند » الى بغداد ؛ فتعزز موقف سلطات الاحتلال ، وكثر الاحتياطي لديها .
اما الثوار ، فانهم كانوا قد صرفوا القسم الاعظم من نشاطهم وجهودهم حتى عتادهم خلال شهري تموز وآب سنة 1920 . ولما كان امد الثورة قد تجاوز الخمسة اشهر ، كان لزاماً ، والحالة هذه ان تهبط كميات من المؤن لديهم ، وان يتسرب الوهن الى قواتهم ، لا سيما ولم تأتهم امدادات ولا ذخائر ولا أموال لا من خارج العراق ولا من داخله . يضاف الى سبب رئيسي وهو ان بعض شيوخ العشائر كانوا يهدفون الى انتهاز الفرصة للحصول على اكبر المغانم والاقطاعيات بممالأة سلطات الاحتلال والدفاع عنها احياناً ومنع انتشار الثورة الى مناطق اخرى وذلك بالوقوف في وجه الثوار ، وفعلاً فقد استفاد هؤلاء فوائد جمة وتوسعت رقع اقطاعياتهم وامتلأت خزائنهم باموال الخيانة والسحت الحرام .
كما ان سلطات الاحتلال عمدت الى استعمال القصف الجوي بالطائرات واكتساح المناطق الثائرة بالمصفحات ، وفي وقت لم يكن بأيدي الثورا غير البنادق والمكاوير والسيوف والعزيمة الصادقة في القتال والايمان بشرعية ما يدافعون عنه .
احتلال طويريج :
بعد ان استطاعت سلطات الاحتلال اخماد نار الثورة في لواء ديالى وارجعت الفلوجة الى قيود الاحتلال واستردت هيت . رأت ان الوقت قد حال للقيام بهجوم عام على جبهات القتال في الفرات الاوسط فعهدت الى اللوائين 53 و 55 بالهجوم ، فتحرك اللواء 53 عليها في يوم الثلاثاء 28 محرم سنة 1339 هـ ، 12 تشرين الاول سنة 1920 م واشتبك مع الثوار مع معركة حامية واستطاع احتلال طويريج .
استسلام كربلاء :
لم تر كربلاء بعد دخول الانكليز طويريج بدا من الاستسلام للسلطة فقررت حكومتها المؤقتة ارسال وفد يعرض على مقر اللواء 53 طاعة المدينة ويعلن استعدادها للتسليم ، ويقبل بشروط الاستسلام القاسية التي فرضتها سلطات الاحتلال .
احتلال سدة الهندية :
وقد اتجه قسم من الرتل 53 من الحلة الى المحاويل في العاشر من تشرين الاول فاحتلها بيسر ثم تقدم نحو « خان الحصوة » فسيطر عليها واتجه نحو قصبة المسيب فتصدى له الثوار بشدة ولكنه تغلب على تصديهم هذا واستولى على القصبة ثم تقدم نحو السدة .
وباحتلال السدة يكون الجيش البريطاني قد امتلك « مقتاح الفرات الاوسط » واصبحت المبادرة بيده ، فكان لا بد من اتخاذ الثوار جميع الخطوات اللازمة لانهاء القتال ، على انهم لم يتخلوا عن قتال المشاغلة .
الزحف على الكفل :
في اليوم الذي خرج فيه اللواء الى ( 53 ) من الحلة لاحتلال طويريج خرج منها ايضاً اللواء ( 55 ) لاتسرجاع الكفل من ايدي الثوار ، فتقدم نحو « خط قناة الحمصانية » الى مسافة 6 اميال على طريق الكفل وقناة الشاه فأنشأ بين الحصون ، وسوى الطريق ، وكان الثوار قابضين على خط قناة الحمصانية بقوات كبيرة مع 14 علماً فأجلاهم عنه ، تعضده المدافع بعد معركة استغرقت عدة ساعات وانتهت بالاخلاء المذكور اذ لم يكن في امكان الثور الصمود امام قوات تفوقهم عدة وعدداً .
على ان القيادة البريطانية لم تكتف بالجيش الزاحف على « الكفل » فأمدته بقوات اضافية كبيرة وقد اسقط الثوار احدى الطائرات واسروا ملاحيها ولكن ما لبث اللواء ( 55 ) ان واصل تقدمه نحو القصبة فاحتلها ، ونصب جسراً لعبور الفرات الى الضفة الاخرى ، فحاول الثوار تخريب الجسر ، إلا أن الجيش دحرهم ، وعبر النهر فهدم البيوت وفتك بالابرياء وسبى النساء فانسحبت القبائل الى جهة جسر الكوفة ، تاركة وراءها بعض الخسائر الطفيفة فلحق الجيش بها . وقد ابلى الثوار في الدفاع عنها بلاء مجيداً ولكن دون جدوى لان الحامية المحصورة في أسواق الجسر اشتركت في القتال .
فك الحصار عن حامية الكوفة :
لم يمكن الثوار اللواء ( 55 ) من احتلال الكوفة بيسر فقد استمروا في اطلاق النار على الفرسان الكشافة وعلى الطيارات التي كانت ترمي الرسائل الى الحامية ، بشدة ثم اشتبك الطرفان في معركة حامية ، وامطرت الطائرات ابناء القبائل وابلا من قنابلها حتى الجأتهم الى الانسحاب من مواضعهم الدفاعية ، فدخل الجيش الكوفة في الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم الخامس من شهر صفر سنة 1339 هـ الموافق 18 تشرين الاول 1920 م ، وافرج عن الحامية المحصورة .
اما مجموع الخسائر في الكوفة من الحصار ، فأنه يبلغ 22 قتيلاً ومائة من جراء الجروح بينهم ضابطان بريطانيان وثلاثة مفقودين و 27 مجروحاً .
على ان مناوشات الجيش البريطاني الذي استقر في ضواحي الكوفة ظلت مستمرة مدة شهر كما ابدت ذلك البلاغات الحكومية .
احتلال النجف : تبعد النجف عن الكوفة غرباً نحو عشرة كيلومترات ، وتربطها بها سكة حديد ترامواي انشأتها شركة أهلية عام 1325 هـ وقد رأى « المجلس العلمي الاعلى » في هذه المدينة المقدسة ، ان مدينة النجف التي اخذت عاصمة للثورة ، اصبحت هدفاً للواء ( 55 ) كما ان المجلس المذكور تلقى انذاراً من القادة في هذا اللواء بوجوب تسليم الاسرى المعتقلين في المدينة قبل بزوغ شمس اليوم السابع من شهر صفر ، العشرين من شهر تشرين الاول ، فقرر ارسال وفد يمثل المدينة ليعرض طاعتها على مركز اللواء من جهة وليوصل الاسرى المعتقلين في النجف الى المقر المذكور من جهة اُخرى . وقد جرى تسليم الاسرى في الموعد المحدد .
وفرضت على النجف كمية كبيرة من السلاح والعتاد كغرامة حربية ، فبلغ مجموع ما سلمته 1176 بندقية حديثة الصنع و 14291 بندقية صالحة للاستعمال ، مع ثمانية رشاشات لويس ، ورشاشتين من طراز هوشكس ونحو 200000 خرطوشة .
وفي يوم 15 ربيع الاول 1339 ، 27 تشرين الثاني 1920 زحف اللواء الـ ( 55 ) على مدينة النجف ودخلها قبيل الظهر ، ولما كانت المدينة مسورة ، وكان للسور اربع بوابات فقط فقد أمر الاهلين بالدخول الى المدينة ، وما لبث ان سد ابواب السور تاركاً ستين الف نسمة بدون ماء ولا طعام ، فانتشرت المجاعة بين السكان وفتكت الامراض بهم ، واضطر الاهلون الى استعمال مياه الابار المالحة ، ولم يسمح لاحد بالدخول الى المدينة او الخروج منها إلا بجواز واستمرت الحال على هذا المنوال شهراً لقي خلاله من البلايا والرزايا ما لا طاقة للبشر بتحمله .
استمرار الكفاح :
بعد ان احتل اللواء ( 55 ) جسر الكوفة وافرج عن الحامية المحصورة في الخانات ، على النحو الذي فصلناه ، بدأ الثوار يحتشدون في بساتين ابو صخير للدفاع عن انفسهم اذ لم يبق امامهم غير احد امرين : الاستسلام للسلطة ، أو الدفاع حتى النهاية فاختاروا الدفاع حتى ينجلي الموقف وتعلن سياسة المحتلين .
يقول البلاغ البريطاني الصادر في 26 تشرين الثاني 1920 .
« هجمت الطيارات على أبو صخير ، وعلى الحيرة ،في 23 تشرين الاول وقذفت عليهما طنين ونصف طن من القنابل ففتكت بهما » .
وفي بلاغ آخر : « هجمت الطيارات في 27 تشرين الاول على جموع من الثائرين في جوار ابو صخير ، وفي ليلة الـ ( 27 ) هجم مقدار 400 او 500 ثائر على معسكر اللواء الـ ( 55 ) في الكوفة وكانت تساندهم قوة كبيرة ، وعندما اصبحوا على مسافة اربعمائة ياردة صوبت النار عليهم فجأة فتقهقروا تحت نيران مدافعنا » .
وقد استمر تبادل اطلاق الرصاص بين الثوار وبين رجال الجيش البريطاني اكثر من اسبوعين .
وباستسلام كافة شيوخ ورؤساء عشائر الفرات الاوسط تم لسلطات الاحتلال السيطرة على هذه المنطقة الحيوية التي استطاعت ان ترعب الانكليز وان تكبدهم الخسائر الفادحة .
استمرار الحركات حول السماوة :
كانت جبهة السماوة اقوى جبهات القتال في الثورة العراقية وقد كانت السماوة ما تزال في قبضة الثوار ، يوم استردت القوات البريطانية المبادأة وساقت قواتها على طويريج والسدة والمسيب والكوفة ، ويوم بسطت سلطانها على كربلاء والنجف وسائر اجزاء الشامية . وقد جردت الحكومة البريطانية قواتها الخاصة لاسترداد السماوة ، فتحركت عليها في اليوم الثاني عشر من شهر تشرين الاول اللواءان ( 53 ) والـ ( 55 ) .
والواقع ان قبائل بين احجيم التابعة لقضاء السماوة ابت ان تلقي السلاح وهي صاغرة فندبت سلطات الاحتلال السيد محمد السيد محمود ( من وجوه السماوة ) لمفاوضة روؤسائها في امر انهاء القتال صلحاً ، فقبل الرؤساء هذا العرض ، وعينوا وفداً برئاسة غثيث الحرجان للمفاوضة والظاهر ان السطلة ندمت على ما عرضته ، او انها ارادت اذلالا للقبائل حرباً لحملها على قبول الشروط التي تفرضها هي ، فاشتبكت معهم من جديد في معركة حامية كلفت الطرفين خسائر فادحة في الاموال والانفس .
على اثر ذلك استؤنفت المفاوضات فتوصل الطرفان الى توقيع الاتفاق التالي في 20 تشرين الثاني 1920 :
1 ـ ان تكون للعراق حكومة عربية مستقلة .
2 ـ ان لا تطالب عرب قبائل بني احجيم بكل شيء خسرته الحكومة اثناء الثورة ، عدا ما تراه اعين رجال الحكومة باقياً في ايديهم .
3 ـ ان لا يؤدي عرب القبائل المذكورة شيئاً من الضرائب الاميرية لسنة 1920 لانهم لا يستطيعون ان يسلموا هذه الضرائب بسبب ما لحقهم من الاضرار الفادحة من جراء القيام بالثورة .
4 ـ ان يأخذوا على عهدتهم محافظة السكة الحديدية التي تمر بهم على طول منطقتهم .
5 ـ ان يتعهدوا بتوطيد الامن وحماية السلم في جميع اراضيهم .
6 ـ ان يسلموا الى الحكومة 2400 بندقية .