مر يومان و لم تفاجأ المدينه بصاروخ مجنون ينفجر في احيائها و يأخذ حصته من العزّل. يومان عاد الهدوء فيهما الى المدينه و انقطع لسان الرصاص المهذار.
منذ يومين هدأت ديمقراطية النار و الشظايا و تصاعدت مطالب الحق و الحياة. مضى يومان على توقف القتال و انسحاب الثوار الى سجن المنفى المنتظر.يومان كأنهما دهران و الناس لجمت بلجام القلق و عاد الخوف ينشر سحبه بين الحنايا المتراجفه. كما عادت قبضة الموت المتجذره في ارض الحقد التتري. عاد هولاكو يرتدي الزيتوني و يتسلح بمدافع تتقيأ نارا و سموما. بعد هذين اليومين احسّت مريم بأن الانتفاضه اعطتها كل شئ و جاء هولاء لكي يجرّدوها من كل شئ. جاؤوا
كي يجمعوا السبايا و يسوقوهن الى حيث قصر يزيد جاؤوا كي يذبحوا الزهور و الطفوله. جاء هؤلاء كي يحرموها عبير الحريه و يجددوا اصفادها. تلتفت مريم لم تجد من يواسيها .اشقّاؤها انسحبوا مع اخوانها الثوار احسّت ان محنتها تتعاظم و جرح كبريائها لا يندمل. تريد ان تفعل شيئا اي شئ كي تطفئ النار المتأججه في داخلها. انها لا تتحمل ان تطوّق ثانيه انها تبغى الانعتاق الدائم. نظرت مريم في وجوه الناس..... تأملت نفسها علّها تفعل شيئا انها تملك اراده فولاذيه و ليس من طبعها التردد. و اخيرا قررت ان تموت لتحيا ... قررت ان لا تعيش ميتّه منزويه . التقت بصديقتها و طلبت منها ان تأتيها بصوره للرئيس قالت لها صديقتها .
-و هل بقيت صوره للرئيس في مدينتنا؟ لقد ديست كل صوّره بالاقدام....لكن لماذا تطلبين هذا الطلب الغريب؟
ردت عليها مريم...
- لاني نويت ان ابارك افراد المفرزه المتمركزه امام الجامع بنصرهم المؤزر.
- تباركيهم!؟ كيف و انت لك اخوان كانوا قبل يومين يستنشقون سمومهم و يكتوون بنارهم.
-سأباركهم ... و لكن بطريقتي الخاصه.>
فهمت الصديقه ما يدور برأس مريم فقالت لها بتوسل....
- لا ارجوك اتركي هذا المهمه للرجال .... و ارجو ان لا تنسي ان لك زوجا و انكما تنتظران مولودا في الاشهر المقبله..راجعي نفسك و لا تتسرعي.
- راجعت نفسي كثيرا و استقر بي الرأي على هذا العمل.
- لكن هذا العمل يؤول الى الموت.
- هذا شئ مسلّم به.... و اذا فكر المرء بعمل نضالي عليه ان يقبل بأسوأ الاحتمالات.
- لقد عهدتك عنيده و تصّرين على ما تعزمين لكن ليس على حساب حياتك.... ابتسمت مريم و قالت
-حياتي... كيف تفسّرين ان لنا حياة؟<
هل الحياة تبادل شهيق و زفير؟ هل الحياة ان يحيا الناس عبيدا و ينتظروا دورهم في الذبح كأي خروف على يدي جزار؟ دعك يا صديقتي من كل هذا و فتّشي لي عن صوره للقائد الضروره .
- اعيتني الحيله معك و سأكون مضطره للتفتيش عن صوره تليق بالمناسبه.
توادعتا على امل اللقاء بعد ايجاد الصوره المطلوبه.... ذهبت مريم الى بيتها و في رأسها عزم لا يلين. فتحت خزانة ملابسها و فتّشت بين طيات ملابسها... فعثرت على ما تفتش عنه .... رمانتين يدويتين كانت قد خبأتهما عن عيون الحرس الجمهوري عند تفتيشهم لبيتها. طرحت احدى الرمانتين في مكان قريب من متناول يدها و امسكت الثانيه تنظر اليها مليّا, كأنها ماسكه بمفتاح من مفاتيح الفردوس ..... كانت تنظر الى الرمانه اليدويه و تتذكر حركات اخيها عندما درّبها
على كيفية استعمال الرمانه الهجوميه....بينما هي ساهمه هكذا طرق الباب طرقا عنيفا نهضت و سارعت لفتحه. كان القادم صديقتها,,
- لقد جلبت لك غايتك.
- انها ليست غايتي بل وسيلتي الى غايتي.
- ألم يكن صاحب الصوره هو غايتك؟
- لكنّك جلبتي الصوره و ليس الاصل.
- الا تعتقدين انك تقاتلين شبحا؟
- كلا .... بل اقاتل كلبا مسعورا تجسم بهيئة انسان... و اقاتل خوفكم الذي جعلكم تتخيلون الكلب شبحا او اخطبوطا... دعينا من الكلام لان الوقت يمضي بسرعه. احسّت صديقة مريم انها ستفقد مريم الى الابد, نظرت الى وجهها و كأنها تريد ان تشرب من ملامحه ثم قالت لها,
- يا مريم ان المدينه سقطت و انا على ثقه تامّه انك بعملك هذا سوف لن تحرريها من هؤلاء الاوغاد الذين تمركزوا في كل زاويه منها.
- اؤكد لك ان المدينه سقطت كهدف عسكري لكنها ستبقى ابدا ثائره ...... يا صديقتي لقد خدعتك افكارك... الرماد الذي رأيتيه لا يزال يحفظ تحته جمرا, و ان ثورة التغيير يحملها المظلومون في دواخلهم كما تحفظ الصدفّه اللؤلؤه.
- ان كلامك يوجعني و لكنه يشدّني اليك اكثر فأكثر.
- لنترك العواطف ونستعد الى وداع ليس بعده لقاء.....
فتحت مريم حقيبة يدها و اخرجت مرآة صغيره اهدتها لصديقتها و قالت...
- ان الواحده منّا اعتادت ان تنظر الى وجهها في المرآة.... هذه مرآتي فلست بحاجه اليها بعد الآن.... ارجوك ان تحتفظي بها و تريني من خلالها يوميا.
- اني اراك في ضميري دائما.... و اعدك انك ستبقين حيّه في ذاكرتي.
التصق جسداهما في عناق طويل حتى يخال للمرء عندما ينظر اليهما, انهما جسد واحد.
********
مزقت مريم ما تبقّى من خيوط الخوف المتبقيه في قلبها الانثوي . ادخلت الرمانتين اليدويتين مع هوية الاحوال المدنيه الخاصه بها في حقيبه علّقتها على كتفها الايسر فتحت الباب الخارجي لبيتها و سارت الى هدفها . كانت ترى الشوارع فضاءا ملونا جميلا . وصلت الى منعطف كانت مفرزه للحرس الجمهوري متمركزه بلقرب منه. جلست بمحاذاة جدار اخضر اللون اخرجت احدى الرمانتين و سحبت مسمار الامان و ضغطت على الصاعق بكل ما اوتيت من قوه ,
خرجت من المنعطف الى الشارع المؤدي الى المفرزه , تقدمت نحوها و هي رافعه صورة الرئيس الطاغي امام صدرها و بيدها اليمنى التي اخفتها خلف الصوره رمانه يدويه جاهزه للانفلاق . كانت تتقدم و تزغرد حتى اصبحت المسافه بينها و بين الباطل لا تتجاوز امتارا..... رمت الرمانه على الضابط و جنوده, تساقطوا امامها كأشواك يرفضها الربيع.... تساقطوا و بقيت هي و اقفه كأنها ارادت ان تموت كأي نخله عراقيه شامخه.... رمت الصوره في مستنقع ماء آسن على احد جانبي الشارع اخرجت الرمانه اليدويه الثانيه و عندما سحبت مسمار الامان و اذا بوابل من الرصاص ينطلق نحوها من كل الجهات لكنها افلحت في قذف الرمانه اليدويه على ناقلة جنود كانت واقفه و على متنها جندي كان يرمي الرصاص بأتجاهها, استشهدت مريم الناعم بعد ان حولت غضبها الثوري رعبا في قلوب الطغاة , تقدموا نحوها خائفين و عندما اقتربوا منها فتحوا نيران بنادقهم بأتجاهها و هم يعلمون انها ميته كانوا يخافونها.... كانوا يخافون حتى جنينها لانهم يعلمون ان اللبؤه تلد ليثا.
بقيت جثة مريم ثلاثة ايام على قارعة الطريق لم تدفن استشهدت مريم الناعم لتؤكد للجبناء ان الارض التي انجبت الخنساء و خوله و فدعه ما زالت ولودا بأمثالهن.........
تحية اكبار و اجلال الى الشهيده مريم الناعم و الى كل من استشهد و هو يصارع الجلاد و جلاوزته.
------------------
هاشم جعاز السماوي