عدت ساحة مظفر الواقعة في المدخل الوسطي لمدينة الصدر من اجمل ساحات المدينة، منذ ان انشئت وهي ان لم تحمل الاسم الحالي رسميا، غير ان ارتباط هذه التسمية او هذا الاسم بها، واشتهارها به طغت على اية تسمية اخرى اختارته الاجهزة البلدية وآخرها تسمية”ساحة العمال “.
هذه الساحة عاصرت مدينة الصدر بمختلف حالاتها وتحولاتها وعاشت مع المدينة افراحها واتراحها، سرورها وحزنها، واكتسبت هذه الساحة صداقة الكثير من شرائح هذه المدينة المظلومة والصابرة ولعل من بين شرائح المدينة كانوا”الطلبة “ اذ كانت حديقة هذه الساحة ملاذا لطلبة العلم في تلك السنين الغابرة قبل ان يطل غول النظام الدكتاتوري ليزرعها هي وقناة الجيش بعيونه من الحزبيين ورجال الامن حيث كان يتوجس خيفة من اولئك الذين يفترشونها منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل لا سيما في ايام الامتحانات ولمختلف المراحل، حيث كنت ترى طالب المتوسطة مع طالب الكلية وحتى الدراسات العليا، وكان اغلب رواد تلك الساحة وحديقتها هم من طلبة”ثانوية قتيبة “ العتيدة فقد تكونت بينها وبينهم صداقة وعلاقة مودة ومحبة، ولعل الكثير من اولئك الرواد قد ارتقوا ووصلوا الى مواقع مهمة في الدولة العراقية وربما هناك من اصبح وزيرا او اكثر ولم لا وهم طلبة نابهين مجتهدين مبدعين مجاهدين، واستهوت الكثير السياسة فانخرطوا فيها بانتمائهم لاحزاب وطنبة كان لها دور كبير خطير في الحياة العراقية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي وحزب البعث اليساري، ولعل هذه الاحزاب هي اعرف بملاكاتها ابناء هذه المدينة الباسلة من الذين حصلوا على مواقع قيادية والاجهزة الاخرى، فضلا عن الادباء والشعراء والكتاب والصحفيين ورجال الادارة والاختصاصات الاخرى.
غير ان الطاغية واجهزته الامنية شنا حملة على هذه الاحزاب واعدم الكثير من ملاكاتها ولم ينج من بطشه سوى من هرب بجلده خارج البلاد، وقام بمحاصرة هذه الساحة والساحات الاخرى وقناة الجيش ليحرم الطلبة والناس من الاستفادة منها، والتمتع بحدائقها واصبح من يرتادها بمرور الايام شخصا مريبا، لتمسي في ما بعد مكانا مهجورا مخيفـا ومرتعـا للكـلاب السائبة بعد ان كانت حدائق غناء تحوي اهل المدينة يلقون على بساطها الاخضر متاعبهم وهمومهم او يتزودون من جمالها ورونقها ما يحثـهم على الدراسـة والتفوق والنبوغ علاوة على المزاج اللطيف والنفس الرائق.
الاف المبدعين
ولسنا ندعي او نعطي للساحة حجما ودورا لايرتبط بها، ولعل الكثير يتذكر معي المهندس محمد احد خريجي هذه الساحة والمدرسة في ستينيات القرن الماضي والذي حصل على بعثة دراسية الى المانيا وعاد حاملا الماجستير صحبته زوجته الالمانية لتسكن معه في بيت اهله في قطاع(7) القطاع المتميز من المدينة، وغيره من ابناء المدينة وهم اليوم منتشرون في الكثير من مفاصل الدولة وبمختلف الاختصاصات والاهتمامات، وليست ببعيدة عنا حقبة أو عقد التسعينيات اذ ادار الصفحات الثقافية للصحف والمجلات التي كانت تصدر في عهد النظام المباد ادباء وشعراء من ابناء المدينة ولعل الكثيرمنهم يتذكر ذلك او ما زالوا فيها او مناصب اوسع منها.
اسباب التسمية
اشتهرت الساحة بهذه التسمية نسبة الى الطبيب المشهور مظفر اسعد والذي بنى سمعة طيبة ووصل الى مكانة مرموقة وشهرة واسعة بين اهالي المدينة لبراعته في مهنته وشفاء الكثير منهم على يديه فقد كان طبيبا متمكنا”ومنهم كاتب السطور الذي اعياه عارض صحي امتد عدة ايام تلاشى بعد معاينته وعلاجه من قبل الدكتور مظفر“ وكان يحنو على المريض ويهتم به صغيرا او كبيرا ويبذل جهدا كبيرا معه حتى يصف له العلاج الشافي ليتعافى لاحقا، فضلا عن اعتدال اجرته مراعاة لاوضاع تلك الطبقة المسحوقة المعاشية، اذ كان يعد نفسه منهم، واختار السكن بقربهم في حي جميلة ليكون قريبا منهم وليتمكن من تقديم اقصى الخدمة والرعاية لهم في حقبة الستينيات، كانت عيادته الاولى تقع قرب ساحة 55 وهي جزء مقتطع من احد البيوت لكنه وبعد ازدياد المراجعين من اهل المدينة الى عيادته الصغيرة تلك اشترى قطعة ارض في حي الامانة المطل على الساحة ليشيد فوقها ليست عيادة بل مستشفى صغير افتتح فيه جناحاً لاجراء العمليات الصغرى واعتمد اطباء مساعدين له في هذا المستشفى الذي كان يضاهي العيادات الحكومية بنظافته ومستلزماته وخدماته، والحقت به صيدلية ليستوعب الاعداد الكبيرة من طالبي الشفاء من الله عز وجل وعلى ايدي هذا النطاس البارع.
وهو علاوة على كل هذه المزايا فقد كان كريم الخلق اريحياً ذا سريرة نظيفة قنوعا بعيدا عن الجشع، وبمرور الايام والسنين اكتسبت الساحة الاسم من عيادته الكبيرة، ثم ليستقر على هذا الاسم وتشتهر به اي”ساحة مظفر “.
موقع الساحة
ومن المزايا التي توفرت للساحة هي الموقع المتميز من دون ساحات المدينة كافة، فقد اضاف لها الموقع احتراما من قبل الناس المحيطين بالساحة، فهي اصبحت حلقة الوصل بينهم على اختلاف ثقافاتهم واهتماماتهم ومستوياتهم اذ تقع بين الحي الراقي جميلة الاولى او (جميلة الصناعية)، حيث سكنت هذه البقعة عوائل من مستويات رفيعة ومن محافظات البلاد كافة، وحي القدس الامانة حاليا، وهو حي راق ايضا يمتد مع قناة الجيش حتى الجسر المؤدي الى مدينة الالعاب، والقطاع السابع من مدينة الصدر، وهو القطاع الذي حصل على سمعة طيبة في المدينة وكانت له مزايا متعددة”وربما لنا وقفة لاحقة معه “.
فوائد الساحة
ما ان فتحت عيادة الدكتور مظفر اسعد قرب الساحة، حتى بدأ انتعاشا تجاريا يلفت النظر فيها حيث فتحت مكاتب لمهن مختلفة واستأجرت وزارة التربية عددا من البيوت الكبيرة خلف العيادة لاتخاذها مدارس بسبب نقص البنايات ومن تلك المدارس”الاقدام والقدس في حي الامانة “ علاوة على متوسطة القادسية في حي جميلة فضلا عن انشطة تجارية واقتصادية ومعيشية اخرى.
احداث عاصرتها الساحة
شهدت الساحة وكانت شاهدا على احداث كثيرة مرت بالعراق، مثل انقلاب شباط الاسود، حيث حاصرتها وعبثت بها دبابات الشياطيين مخافة من اهل المدينة ان يثوروا نصرة للزعيم عبد الكريم قاسم كذلك اتخذتها دبابات عبد السلام عارف مثابة للانقضاض على فلول الحرس القومي في المدينة، وحين حدث انقلاب 17 تموز الاسود اختيرت الساحة مقرا لقيادة القطعات العسكرية التي رابطت على امتداد قناة الجيش، وعلى الرغم من التاريخ المجيد للساحة وارتباطها بالذاكرة العراقية، غير ان الاجهزة الحزبية للطاغية شوهت ذلك التاريخ باتخاذها ساحة للاحتفالات والمسيرات التي تمجد الطاغية اذ تتجمع فيها لتلقى الكلمة السمجة المكررة في كل مناسبة واحتفال وترويع المدينة ومناشدة الطاغية البطش والتنكيل باهالي المدينة واشهار السيف بوجههم.
بقي ان نقول ان الساحة ما برحت تستعيد آلقها ومكانتها في ذاكرة اهالي المناطق التي احاطت بها، وامتدت يد الاهتمام لها لاعادتها الى صورتها الجميلة الراسخة في اذهان الناس لا سيما الذين ارتبطوا بذكريات وعلاقة حميمة معها واصبحت جزءاً من تاريخهم. غير ان الارهاب وقوى الظلام وايتام النظام المباد والجهات الحاقدة على البلاد وعلى الاجراءات التي تتخذ والقوانين التي تسن والمشاريع التي تقر من اجل سعادة ورفاهية ومستقبل العباد، جعلت من هذه الساحة هدفا مع مواقع اخرى لها، وراحت تكرر هجمات الغدر عليها بين الحين والاخر لاجل تدميرها والغاء وجودها ومسحها من الذاكرة وراح عدد الضحايا الذين يسقطون فيها بتفجيرات واستهدافات رعناء جبانة يتزايد كل يوم.
لكن هيهات ايها الغادرون ان تستطيعوا الغاء الذاكرة او حتى اعطابها، لان ذلك يعني النهاية والموت، والعراقيون اليوم قلبوا المعادلة لان الموت لا يعني الفناء لهم، بل هو بداية ناهضة هادرة وتبت ايديكم.