تحتفظ الشاعرية الأصيلة بميزة مذهلة تلك هي قدرتها على سن قانونها الخاص طارحة جانبا المنطق
الذي يحكم الأشياء متخذة منطق آخر تصوغه الحواس المرهفة متوسلة بالصورة الشعرية ، تلك الحواس التي تتخلى أثناء عملها عن تخصصها بمحض أرادتها مدفوعة بقوة غامضة، وكما الاميبا التي لا تملك سوى بقعة عينية تختزل كل حواسها فيها 0
يقول الشاعر لوركا في إحدى قصائده
(كل أغنية
سكون الحب
كل نجمة
سكونٌ لزمن
عقدة الزمن
كل تنهيدة
سكون الصرخة)
هكذا بكل بساطة عرف الشاعر الأشياء ، ونحن نقرأ كلماته نذهل كيف لم نتوصل قبل ذلك لهذا التعريف ؟ لقد استطاع الشاعر زحزحة حواسنا وببساطة متناهية قدم لنا علاقات جديدة للأشياء هي اقرب إلى جوهرها فالأغنية والنجمة والتنهيدة ابعد ما تكون عن السكون ولكنها عندما تقترن بالحب والزمن والصرخة ، لن تكون عندها ألا كذلك 0
وفي قصيدة أخرى يقول :
(يا له من أسى بلون القار
صار جسدي وثيابي
أواه يا قمصاني الكتانية) قد نضن لاول وهلة إن لون الأسى الأسود بلون القار هو تعبير مجازي ولكننا سرعان ما ندرك إن سائلا لزجا اسود قد لطخ الجسد والثياب وانه التصق بالقمصان الكتانية ، فأي أسى هذا ؟ وأية حواس تلك 0
ويقول في قصيدة (القيثار):-
(يبدا نحيب القيثار
تتكسر أقداح الفجر)
حين ينبلج الفجر ، فهل ثمة غير الضوء؟ هل ثمة أصوات تصاحب انبلاجه؟ تلك هي أقداح الفجر المتكسرة تصاحب انبلاجه 0
وفي قصيدة أخرى يقول :
(كان الطفل وحيدا
والمدينة الغافية في حنجرته)
هنا الطفل لا يبكي بل المدينة هي التي تبكي ، فبكائه صدى حزن المدينة الغافية في حنجرته ، إن الطفل هنا يبكي الجنس البشري مجسدا بالمدينة الغافية ، وإذا كان الكبار ينامون مع أحزانهم فهم مطمئنين إلى أن هناك من يبكيهم أو يبكي عنهم وهم غفاة وهنا اجتمع الصمت والصوت معا في صورة فريدة0
وفي قصيدته المشهورة (حكاية الحرس الأهلي الإسباني) نجد تلك الصور مجسدة بالرعب الذي يغلف كل شيء ابتداء من الأعلام على المنعطفات ومرورا بالقمر حتى قلائد اللوز إذ تفتح مدينة الغجر المنكوبة عينيها على هول الفاجعة حين يحيط بها الحرس الأهلي أصحاب الجماجم الرصاصية والأرواح المجبولة من جلد اسود ويسدون مسارب المدينة في ليلة تقابلت فيها البراءة مع الهمجية وجها لوجه ، الغجر اللاهين مع عتاة الحرس الأهلي وهنا يصور الشاعر ببراعة المشهد بحواس مستفزة متنقلا بين طرفي الصراع غير المتكافئ :-
(آه يا مدينة الغجر
من رآك ولا يذكرك؟
يا مدينة الأسى والمسك،
وأبراج القرفة)
تلك هي المدينة المسالمة وفي الطرف الآخر:-
(حدب وليليون
يفرضون أينما اتجهوا
سكينة مطاط اسود)
وهم (يخفون في رؤوسهم
فلكا غامضا
لمسدسات خيالية)
وعند الالتحام يكتمل المشهد المؤلم فها هي (السيوف قطعت الانسام المتعثرة بالاظلاف) هنا صورة بارعة للهروب غير المكتمل بفعل الحد المرهف في الوقت الذي تكون فيه العذراء منشغلة وهي (تبرىء الاطفال برضاب النجوم) ذلك الضوء الباهت لنجمة بعيدة يطمئن فضول الاطفال وقد شبهه الشاعر بالرضاب في زحزحة واضحة للحواس التي باتت هنا متداخلة فالطفل يرضع الضوء باعتباره رضابا في تجسيد للبرائة التي على وشك أن تنتهك بقسوة فضة من قبل رجال (تخيلوا السماء واجهة للمهاميز) فوجهوا نحوها بنادقهم التي كانت (تقطع السكينة طوال الليل) وقد كانوا (يبذرون النيران حيث يحترق الخيال) .
أن هذه الصور الحية ألمكتنزة المعبرة بدقة عن الحركة والسكون والمترشحة عبر حواس فاعلة تحيلنا على الدوام الى عالم آخر لايشبه العوالم الرومانسية التي تجمل اللحظات بالعواطف السخية بل هي تحيلنا الى جوهر الاشياء الى جوهر الفعل الانساني ذلك الفعل المتجلى في اللحظة الحرجة فـ (هناك تحت الجذور وفي لهب الهواء ندرك الخطأ والصواب) و (من أجل أن أفهم أن ما أبحث عنه ماض الى صميم فرحه حين أحلق ممرغا بالحب والرمل) ذلك الانغماس بالحياة حد النشوة والذي سبق وأن جسده الشاعر والت ويتمان في اوراق العشب فليس ثمة شيء مهمل من ورقة العشب حتى ابعد الكواكب فاهمية الاشياء لاتتجسد فقط في وجودها المحض بل في انعكاسها في حواسنا فـ (أنا لن اشكو ان لم أجد ما أبحث عنه عند الصخور ألصلدة وألحشرات الدنيا) (بل سامضي الى أول مشهد للنداوة وخفقات القلب) تلك هي انسانيتي ، تلك هي رغبتي وتلك هي حواسي المستفزة (تحت الملاقط ومكانس قمر السرطان السماوي، الدم الذي يبحث في الف درب عن الميتات المجللة بالورد ورماد العنبر)