كان إرجاعنا للمفردتين العراقيتين الشهيرتين ( أكو.. ماكو) الى أصلهما في اللغة المندائية كوريث أساسي للغة الأكدية أم اللغات السامية، كان مثار نقاش في أثناء عرض دراستنا حول اللغة المندائية في مؤتمر جامعة مدينة بوزنان في بولونيا ضمن مؤتمر الأديان غير المسلمة في العراق. وقد أثار ذلك تحفظات بعض المستشرقين حتى دعمنا ذلك بالمعنى، ثم بالإستشهاد بكلمات أخرى ذات إستخدام شائع في اللغة العراقية المحكية والتي لا يعرف لها أصل عربي أو قد يستهين بها البعض بعدها من المفردات ( الجلفية) التي قد يعاب إستخدامها.
وقد تطور النقاش على هامش المؤتمر حتى جذب إهتمام معهد الإستشراق في الجامعة للمفاجآت العديدة التي عرضناها في عائدية مفردات عراقية وبخاصة في لغة الجنوب المحكية الى اللغة المندائية حصرا أو إرثا أكاديا. كما أبرز النقاش الحاجة لوضع قاموس للمفردات المندائية الشائعة في لغة العراق المحكية، وهو ما قطعنا فيه شوطا طيبا.
وقد كانت مفاجأتنا مفرحة ولا تقبل التأجيل في الإعلان عن مرجعية الـ( چـا) العراقية الى اللغة المندائية. هذه الـ( چـا) التي تتقاسم مع الـ( أكو.. ماكو) سمة اللهجة العراقية ، حتى أن من يريد ان يظهر بيان تحدثه باللهجة العراقية فإنه يلجأ الى إستخدام هذه الكلمات الثلاث. أما الـ( أكو.. ماكو) فقد تناولناهما في مقالة سابقة، وأما الـ( چـا) فنقول أن باحثين عديدين حاروا في عائديتها وقد ذهب فيها البعض الى أنها من الكلمة الهندية ( آچـا) وقد جاءت مع مربي الجاموس الهنود يوم إستقدموا للعراق مع جاموسهم. أو هي تحوير لكلمة (أكو) بقلب الكاف جيما والواو ألفا لتكون( أچـا) ثم ( چـا) أو أنها من المقطع ( كا). وكذلك حاروا في معناها كلازمة فقط أم أنها تفيد المعنى في الإستدلال بتثبيت الظرفية خاصة وأنها تسبق السؤال بكيف وأين وماذا..
ويقابل لفظة الـ (چـا) كلمة ( لعـد) البغدادية. فالسؤال (جا وين؟) يقابله (لعد وين؟).. وهكذا. ولذا تجد البعض حينما يريد أن يتبغدد ويرتقي على لهجة الجنوب العراقية في الـ(چـا) يقول الـ( لعـد). مع أن لكمة ( لعـد) متكونة من (لا) و ( عاد). والـ(عاد) هنا ليس بمعنى العودة ولا بمعنى العادة أو أي معنى مشابه في اللغة العربية الفصيحة.
وإذا إعتمدنا أن (لا) هي أداة نفي في العربية والمندائية، فإن كلمة (عاد) هي ما تحتاج الى متابعة. ونجد في اللغة المنداية كلمة ( آد) تعني( فإن ،إذن، الى حين، حتى) وهي تفيد المعنى ذاته خاصة إن فرقنا الكلمتين كما في بيت الشعر الدارمي( دكم سترتك زين لا عاد أشتم..). وبذا تكون الـ ( لعد) البغدادية هي ربط بين لا وحتى أو الى حين أو إذن . ويكون المعنى أوضح في (كافي عاد) و ( بس عاد).
أما الـ(چـا) فقد قادنا البحث فيها الى أنها من أساس الفعل ( شا: ش، ا، ا) في اللغة المندائية. ولأنه من المعتاد أن يقلب لفظ حرف الشين في بعض الكلمات في لهجة الجنوب العراقي الى (چ) ذلك أن هذا االصوت ليس من اصوات الأبجدية المندائية ولا العربية، فإن ال( شا) تصبح (چـا) . ويتأكد ذلك من خلال معنى الفعل ( شا) في اللغة المندائية والذي يفيد : التكلم، التحدث، المناقشة ، الذكر. وهذا تماما ما يراد به في ذكر كلمة الـ(چـا) حيث ترد دائما مقرونة بكلمة أخرى مثل: چـا شلون: قل كيف؟ چـا وين: إذكر أين؟ چـا شمالك: قل ما بك؟ وهكذا فهي مرتبطة بالسؤال والإستفسار والطلب من المقابل أن يذكر: كيف وكم ومتى وأين ولماذا؟
ومن أصل هذا الفعل تشتق كلمة ( شيتا) بمعنى الكلام في اللغة المندائية، وكلمة(شوتا) بمعنى القول وهي ليس بعيدة عن الكلمة العربية ( الصوت). ويرد في الأدب المندائي : ( هازن هي شوتا قدمايتا) بمعنى: هذا هو الصوت الأقدم، الذي نادى به الحق لمعرفة الخالق وتوحيده في أنه الدين الأول.
ولأن اللغة المندائية - كما هو معروف- خالطت لغة النبط في مملكة ميسان قبل ما يزيد على 2300 عاما ، فإن مفرداتها سادت وتعاقبت وعاشت في المجتمع. ولم تستطع اللغة العربية ، مع أنها إستندت الى أصولها السامية وأخذت الكثير من اللغة الأكدية، أن تستوعب جميع المفردات وبخاصة تلك التي كانت لصق اللسان أو الأسهل والأيسر والأدق في التعبير. وعلى هذا نجد أن اللهجة المحكية أقصر طريقا في التعبير عن الفكرة في أغلب الأحيان.
وحيث يستند أصحاب الأصل الغربي للمندائيين ( قدومهم من فلسطين) الى ورود بعض المفردات المحددة في اللغة المندائية والتي تشير الى مواقع في حوض الأردن كما في كلمة (يردنا) التي تشير الى الماء الجاري فإن هنالك من الدلائل أن هذه الكلمة ذاتها ذات أصل سومري في ( گور- دو- ن). كما أن مئات الكلمات التي مازالت مستخدمة و شائعة في اللغة المحكية العراقية وبخاصة في جنوب العراق هي أدواتنا لمقابلة هذا الفريق في أن المنشأ والوجود والبقاء المندائي إنما هو بلاد ما بين النهرين. بل أن للمندائيين بناءاتهم المؤسسة في هذا الوطن العراق، وإن جادل مجادلون فهذه لغتهم في الـ( أكو، ماكو، جا، لعد، يمعود....والمئات التي نقوم بتوثيقها الآن).
كيف لا يؤلمنا إذن إستهدافهم من قبل الطارئين على العراق. وكيف لا يعصرنا إذن ألم نزوحهم الإجباري اليوم من العراق. تاركين فيه تعميدهم الذي لا يرتقيه أي تعميد في ماء غير ماء الفرات، فهو ( فراش زيوا: الفرات النوراني)! وتاركين مفردات لغتهم التي سيبقى العراق يتحدثها لغة محكية في الوقت الذي يضطرون هم من جديد الى تعلم لغات بلدان اللجوء!