مذكرات جورج تينيت ..في قلب العاصفة
شجعنا الجيش العراقي على الاستسلام و أحمد الجلبي فاجأنا بعدد قواته
عملنا كاستخبارات مركزية أميركية انطلاقاً من شمال العراق وعبر حدود البلدان المجاورة إلى الجنوب والغرب. وأبلغنا العسكريين بشفافية تامّة بالاتصالات التي نجريها، وعرّفنا القوات الخاصة الأميركية على أفراد داخل العراق لديهم بعض الأمل في إقناع الوحدات العسكرية بالانشقاق عندما تبدأ الحرب البرية، إما بتبديل ولائها أو بالاستسلام.
وفي النهاية، لم ينشق الكثير من الوحدات، هذا إذا انشقّت، لكن لم نقابل أيضاً الكثير من وحدات الجيش النظامي. إذ لم يكن تغيير الولاء خياراً جذاباً بالنسبة إليهم. وغالباً ما كانت وحدات الحرس الجمهوري العراقي خلف قوات الجيش النظامية. فكانت تواجه الموت المرجّح إذا تقدّمت نحو الوحدات العسكرية الأميركية أمامها، والموت المحقّق تقريباً إذا شعرت قوات صدام الخاصة في الخلف بأنّها لا تساند النظام.
هذا الوضع جعلنا نشجّع خيار الاستسلام، وقد عمل ضباط الحالات لدينا مع المصادر السريين على إيصال الرسالة إلى الجيش العراقي. لكن، قبل بدء الحرب بقليل، سُحب هذا الخيار عن طاولة البحث، وكان السبب بسيطاً. كانت القوات الأميركية قليلة على الأرض بحيث إنّ نجاح حملة الحض على الاستسلام سيؤدي بسرعة إلى أن تفوق أعداد أسرى الحرب أعداد القوة الغازية
كان الموقف الاحتياطي الاقتراح على وحدات الجيش العراقي أن تلقي سلاحها وتذهب إلى البيت. وبدأ الجيش الأميركي يلقي مناشير من الجوّ تحمل تلك الرسالة، وأخذ الجنود العراقيون الأمر جديّاً وانسحبوا بأعداد كبيرة عندما بدأت المعارك (في وقت لاحق، عندما حاول جيري بريمر تبرير أمره المثير للخلاف بحل الجيش العراقي في 23 أيار (مايو) 2003، قال إنّ الجيش حلّ نفسه بالفعل. صحيح، لكن الجيش فعل ذلك إلى حد كبير بناء على طلب الحكومة الأميركية، ولم يكن يتوقّع بالتأكيد أن يُعزل جنوده، حاملين سلاحهم معهم، من دون وسيلة في الغالب لإعالة أسرهم).
قمت بزيارة ضباط الـ "سي آي أي" في عدد من القواعد السرية في الصحراء في غرب العراق وجنوبه قبيل الحرب مباشرة. وقد أقيمت القواعد في أماكن بعيدة عن الحضر لتدريب الشبكات القبلية العراقية وتجهيزها بحيث يتمكّنون من معاودة الدخول الى البلد للمراقبة والتخريب، وإرسال البيانات إلى القوات الأميركية. كان الضباط الذين التقيتهم يقيمون في خيام منذ أشهر استعداداً للحرب، وكانوا متلهّفين على ابتدائها. كان كثير منهم شباناً - وكثير منهم في جولاتهم الأولى لأداء الواجب - وكنت مدير الاستخبارات المركزية الوحيد الذي عملوا بإمرته. كانت زيارتي تهدف إلى بثّ الروح المعنوية فيهم وإعلامهم بأنّني فخور بهم وواثق من قدرتهم على النهوض للتحدي. لكن لم يكن في وسعي، بيني وبين نفسي، إلا أن أقلق لأنّ العديد من هؤلاء الشبان والشابات يمكن أن يموتوا عما قريب.
في إحدى تلك الزيارات، التقيت بمفرزة بقيادة اللواء محمد عبدالله الشواني، وكان قائد القوات العراقية الخاصة في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. قدّم الشواني إلى الوكالة في سنة 1991، وسرعان ما أصبح من أكثر الشركاء في العمل ضدّ نظام صدام انتقاداً للحكومة الأميركية. كان الشواني صاحب بنية مهيبة بحجم لاعب هجوم في كرة القدم وقوته، وهو قائد بالفطرة لديه أتباع كثر داخل العناصر التقليدية وعناصر العمليات الخاصة في الجيش النظامي العراقي. تدرّب كطيار، واكتسب شهرة ونال أرفع الأوسمة العسكرية العراقية عندما قاد هجوماً محمولاً بالمروحيات على تلة يحتلها الإيرانيون في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية.سرعان ما أصبح الشواني، أو "اللواء" كما كان يعرف لدى أتباعه العراقيين، مفتاح إنشاء شبكة قوية داخل العراق لمصلحة الوكالة. لكن أجهزة استخبارات صدام كشفت الشبكة في أواسط التسعينيات ما أدى إلى تعذيب أبناء الشواني الثلاثة وإعدامهم. واصل الشواني عمله من دون كلل لإنشاء شبكة داخل العراق وساعد الوكالة في الاتصال بالقادة العراقيين القبليين والدينيين في الأشهر المؤدية إلى الغزو في ربيع 2003. وفي أثناء متابعة الحرب، ساعد الشواني في إنشاء وقيادة المجموعة شبه العسكرية العراقية التي ترعاها الوكالة وتعرف باسم "العقارب". كان أتباع الشواني كثراً في الجيش النظامي العراقي بحيث إنّه عندما توجّه للتحدّث إلى مجموعة كبيرة من الجنود العراقيين المسجونين في الكويت، تعرّف إليه على الفور عدد كبير من الضباط العراقيين الكبار الذين تأهّبوا وأدّوا له التحية.
بفضل الشواني وكثير غيره، تمكّنت فرق الـ "سي آي أي"، في الساعات والأيام التي سبقت الحرب، من التسلّل إلى العراق والالتقاء بالشبكات القائمة لمحاولة منع الجيش العراقي من تدمير جسور عبور الفرات والوصول إلى بغداد. والتقت فرق أخرى عملاء يعملون على منع صدام من إحراق حقول النفط في الجنوب.عند اقتراب الحرب، انتقل ضابطنا الكبير المعين في بغداد، "تشارلي س." إلى الدوحة، حيث جلس إلى جانب الجنرال طومي فرانكس. أصبح تشارلي عضواً مهماً في الفريق العسكري. كان يقدّم على الدوام معلومات من شبكات مصادرنا عن الأهداف العسكرية المحتملة. بل كان في بعض الأحيان ينصح بعدم القصف. على سبيل المثال: عندما علمت القيادة الوسطى بمكان اختباء ضابط استخبارات عراقي كبير، كان ردّ الفعل الأول للعسكريين توجيه صاروخ توماهوك إلى إحداثيات المكان. غير أنّ تشارلي، كضابط ارتباط في قيادة طومي فرانكس، أقنع نظراءه العسكريين بالقيمة الاستخباراتية لأسر هذا الضابط حياً. وأثبتت جهود إيصال القوات البرية إلى موقع الضابط جدواها، على رغم صعوبتها، استناداً إلى المعلومات التي حصلنا عليها منه لاحقاً. عملت فرق جهاز الارتباط في شمال العراق بشكل متواصل بعد تموز (يوليو) 2002، وكانت ظروف العمل شاقّة جداً، بعيداً من أي دعم عسكري، وتحت الخطر الدائم من قوات أمن صدام. مع ذلك حقّقوا بعض النجاحات الاستثنائية. فقد تمكّنوا من تجنيد شبكات بأكملها من العملاء العراقيين الملتزمين بمساعدتنا في إطاحة نظام صدام. كانت إحدى المجموعات العراقية، الموحّدة بانتمائها الديني، على درجة عالية من الأهمية. فبعدما تمكنا من إقناع زعماء المجموعة بأنّ الولايات المتحدة جادّة هذه المرة بشأن التخلّص من صدام، وبعدما قدّمنا لزعمائها مليوني دولار لإثبات عزمنا، بدؤوا في تقديم معلومات استخبارية عملية. كانت المجموعة تحضر أربعة ضباط عراقيين في الأسبوع ليستجوبهم فريق الـ "سي آي أي" في جهاز الارتباط في شمال العراق. وكان زعيم الطائفة الدينية، يشير إليه رجالنا باسم "البابا"، يجلس في هذه الاجتماعات. وغالباً ما كان المستجوبون يرفضون الإجابة عن بعض الأسئلة، قائلين إنّ ما نسأل عنه "حساس جداً". وفي كل مرة كان "البابا" يتدخّل ويوعز إليهم قائلاً: "ستجيبون عن السؤال"! وكانوا يطيعون. وأخبرنا كل عسكري استجوبناه أنّ صداماً يمتلك أسلحة دمار شامل بالفعل.توصّلنا إلى اكتشاف مبكّر عندما سلّمنا أحد أعضاء المجموعة قرصاً مدمجاً يحتوي أساساً على لائحة بأسماء أفراد منظمة الأمن الخاص لصدام. فدقّقنا باللائحة مقابل بعض الأسماء التي نعرفها بالفعل. وتبيّن أنّها صحيحة ومكّنتنا من تحديد عدد من العملاء المزدوجين الذين حاول جهاز الاستخبارات العراقي زرعهم في أوساطنا.
وقدّم إلينا أفراد آخرون في هذه الشبكة معلومات عن مواقع منصات الصواريخ العراقية، وأبلغونا بدقّة متى تختبر البطاريات. وباستخدام طائرات الاستطلاع الأميركية، تمكّنا من التثبّت من دقة تلك المعلومات. كانت الصواريخ موجودة حيث أبلغتنا مصادرنا. ونتيجة لذلك، تمكّن الجيش الأميركي من القضاء على صواريخ صدام أرض - جو بسهولة عندما بدأت الحرب.في الفترة المؤدية إلى الحرب، وعدت الولايات المتحدة بتسليم كمية كبيرة من الأسلحة إلى الفصيلين الكرديين الرئيسين في شمال العراق (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني) لينضما إلى القتال المقبل بفاعلية. لم يكن الحصول على الأسلحة يثير مشكلة، لكن إيصالها إلى هناك مسألة أخرى، فقد رفض الأتراك السماح بأن تعبر الأسلحة بلادهم.استأجرت الـ "سي آي إي" طائرات نقل كبيرة، ولكن، رفضت البلدان المجاورة طلب منحها حقوق المرور في أجوائها، فغضب الأكراد من التأخير. وأخذوا يسألون مراراً وتكراراً، "أين الأسلحة التي وعدتمونا بها؟"، لم يكن لدينا جواب مرضٍ. أخيراً، في شباط (فبراير) 2003، قبل نحو شهر من بداية الحرب، قال ممثّل الاتحاد الوطني الكردستاني المحلي لطوم س.، رئيس فريق جهاز الارتباط في شمال العراق في مدينة السليمانية، "لا عليكم". ذهل طوم عندما شاهد شاحنات تصل إلى مستودع على بعد خمسين قدماً من مقرّه وأطناناً من الأسلحة التي سلّمها الحرس الثوري الإيراني إلى الأكراد.
بقي فريق الارتباط في شمال العراق على اتصال وثيق مع لانغلي، وأرسل مئات التقارير الاستخبارية إلى مقرّ القيادة. وأبقوا على اطلاع بدورهم على ما يجرى في واشنطن. وفي إحدى المناقشات، أبلغ ضباط العمليات في واشنطن الضباط الميدانيين عن تطوّر مهمّ في الوطن. لقد أصبح مقهى ستاربكس في مقرّ قيادة الـ "سي آي أي" يعمل لمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم. فخمّن الضباط الميدانيون بأنّ ذلك يشير إلى أنّ بداية الحرب أصبحت وشيكة، وكانوا مصيبين.بدأت عملية حرية العراق قبل قليل مما توقّعنا بسبب معلومة من أحد أفضل مصادر فريق الارتباط في شمال العراق عن المكان المحتمل لعدو الشعب الرقم واحد: صدام حسين. كان بعض أعضاء المجموعة مشاركين في تأمين الاتصالات للمسؤولين العراقيين الكبار، بمن فيهم صدام. وكانت لوحة الحالة في مقرّ قيادة اتصالات النظام تضيء باللون الأخضر عندما تعمل الشبكات العراقية بشكل صحيح وباللون الأحمر عندما لا تكون كذلك. وتكون الأضواء خضراً على العموم. وقد لاحظ مصدرنا أنّ قوات أمن صدام تقطع الاتصالات دائماً في المناطق التي يوشك صدام على الانتقال إليها - لمنع العسكريين غير الموالين من كشف مكان وجوده أمام الأعداء.غير أنّ القطع المؤقّت للاتصالات يؤدي إلى ظهور الأضواء الحمر قرب المكان الذي يقصده صدام. وتمكّن مصدرنا من تأكيد شكوكه بمرور الوقت. كانت الأضواء الحمرء تنطلق، ثم يُعلم لاحقاً أنّ صداماً كان في الموقع. وعندما يغادر صدام تعود الأضواء الخضر. وبفضل هذا الخلل في النظام، كانت لوحة الحالة تبثّ أساساً مكان وجود صدام.قبل يومين من الموعد النهائي الذي حددته الولايات المتحدة لامتثال صدام، تلقّى مصدرنا خبراً عن اجتماع محتمل في تلك الليلة في مزارع الدورا، وهي عقار تمتلكه زوجة صدام. وعلى رغم عدم اتضاح من سيكون حاضراً، كانت هناك دلائل تشير إلى أنّ أبناء صدام وربما العائلة بأكملها تعتزم الاجتماع هناك، لبحث ما يمكن أن يحدث إذا قامت الولايات المتحدة بالغزو.