تحذيرات طبية من التقليد الأعمى للمشاهير
التأثيرات النفسية لسلوكيات الآخرين أعمق مما نظن
تقليد المشاهير يضر بالانسان.. فتاة المجتمع الشهيرة باريس هيلتون لدى خروجها من السجن في مدينة لوس انجليس الشهر الماضي (الشرق الاوسط)
الرياض: «الشرق الأوسط»
الهوس الإعلامي في تغطية أخبار النجوم والمشاهير، خاصة في سلوكياتهم الخطرة، قد يُؤدي بالبعض إلى محاكاتهم وتقليدهم، ما قد يفرض، لدواع أخلاقية، ضرورة ضبط الحديث عنهم. هذا ما خلص إليه الباحثون النفسيون من تايوان في دراستهم المنشورة بعدد يونيو من مجلة الطب النفسي الإكلينيكي حينما تناولوا تأثيرات أخبار محاولات انتحار النجوم والمشاهير على الناس. وأكدوا من خلالها أن التأثيرات السلبية تطال بالدرجة الأولى الأشخاص الذين سبقت لهم محاولة الانتحار، إضافة إلى غيرهم ممن لم يُفكروا في السابق باللجوء إلى الانتحار للخلاص مما هم فيه.
* تقليد أعمى
* وإشكاليات التقليد الأعمى لأفعال المشاهير أو للأفعال التي تُعطي الشهرة لغيرهم، كثيرة اليوم. وثمة أبحاث طبية نفسية في هذه الجوانب بالذات حاولت بنتائجها وضع مجموعة من الضوابط التي يُمكن بها تقليل إقدام الغير على محاكاتهم وتقليدهم في سلوكياتهم النفسية الخطرة تلك. إلا أن الإقدام على محاولة الانتحار، من دون كل السلوكيات الأخرى، يُمثل خطورة إقدام الغير على تقليده ومحاكاته. وهو في هذا أشد من مجرد تقليد تعاطي الكحوليات أو المخدرات أو السرقة أو غيرها من السلوكيات الخاطئة التي قد يرتكبها بعض مشاهير السينما أو بعض الموسيقيين أو نجوم التلفزيون أو غيرهم. ولعل من أوضح ما يدل على ذلك هو تدخل منظمة الصحة العالمية في عام 2000 بوضع سلسلة من التقارير حول سبل الوقاية من انتشار حالات الإقدام على الانتحار، والتي شاركت فيها مجموعة من الباحثين في الطب النفسي من مختلف مناطق العالم، منهم الدكتور أحمد عكاشة من جامعة عين شمس بمصر، إضافة إلى آخرين من أستراليا وفرنسا والصين ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وغيرها. وأهمها كان الموجه إلى العاملين في المجال الإعلامي Preventing suicide: A report for media professionals. بل وصدرت عدة دراسات علمية حول ضوابط التغطية الصحافية لأخبار انتحار المشاهير، للحيلولة دون تفشي تقليد الغير لهم. والواقع أن تنبه الوسط الطبي لتأثيرات العنف المحتملة في سلوكيات البالغين، التي تتسبب بها حتى تلك الروايات والمسلسلات التلفزيونية، قديم جداً. وإحدى الدراسات الطبية للدكتور ديفيد فليبس تم نشرها في عام 1982 ضمن أعداد المجلة الأميركية لعلم الاجتماع بعنوان " دليل جديد على تأثير الإعلام على العنف: أثر القصص التلفزيونية الخيالية على وفيات البالغين.
* تقليد القطط
* وتُعرف المصادر الطبية والموسوعات العلمية مُصطلح انتحار "تقليد القطط" "copycat" attempts بأنه إعادة تمثيل وتطبيق لمحاولة انتحار شخص مشهور إما على النطاق المحلي أو عبر تغطية وسائل الإعلام لانتحاره. والمعلوم لدى الأطباء أن الإقدام على فعل محاولة الانتحار يُشكل نموذجاً لمحاولة الغير محاكاته، في حال انعدام وسائل الوقاية من العدوى تلك. أو ما يُطلق عليه عدوى الانتحار suicide contagion . وهو ما حصل في مجتمعات كثيرة عند انتحار موسيقيين أو ممثلين مشهورين، كما في الولايات المتحدة واليابان. وعادة ما يُطلب من وسائل الإعلام ضبط التغطية لتلك الحوادث كي لا يتفشى تقليدها.
ويُعرف هذا التأثير باسم "ويرثر" "Werther effect", . نسبة إلى الرواية القديمة الصادرة عام 1774، والتي أقدم البطل فيها على الانتحار بإطلاق النار على نفسه بعد قصة حب فاشلة. وهو ما قلده الكثير من الرجال في محاولاتهم الانتحار، بعد صدور القصة تلك وذيوعها، حال معاناتهم من فشل قصص حبهم.
وقال الدكتور أندرو تشنغ، من مؤسسة العلوم الطبية الحيوية التابعة للأكاديمية الصينية في تايبيه العاصمة بتايوان، نتائج دراستنا تُعطي مزيداً من الدعم لضرورة وضع المزيد من الكبح والتقييد للتقارير الإخبارية حول محاولات الانتحار. وهو ما يُعتبر احدى الاستراتيجيات الوقائية للحد من انتشار حالات الانتحار، وأحد مظاهر الحذر واليقظة من احتمالات "تأثير العدوى" لمثل نوعية هذه التقارير على الناس الذين حاولوا الانتحار مؤخراً أو في الماضي القريب.
وذكر الباحثون أن الدراسات السابقة كانت قد ربطت بشكل عام بين محاولات انتحار المشاهير ومحاولات عامة الناس تقليدهم ومحاكاتهم في ذلك السلوك أو ما يُسمى بمحاولات "تقليد القط". إلا أن غالبية الدراسات تلك لم تبحث في مدى تأثير نوعية التغطية الإعلامية لتلك الأخبار على محاولات الأشخاص الذين تابعوها في الإقدام على الانتحار ولا كيف أثرت فيهم. وللتحقق من الأمر، جمع الباحثون المعلومات المتعلقة بـ 270 شخصا ممن حاولوا الانتحار خلال فترة الثلاثة أسابيع التي تلت تغطية وسائل الإعلام التايوانية لمحاولة الانتحار التي أقدم عليها أحد نجوم التلفزيون المشهورين عام 2005. وتمكن الباحثون بالفعل من مقابلة 124 من هؤلاء الأشخاص ومساءلتهم عما مر بهم.
* عرض مُضلل
* ولاحظ الباحثون أن التغطية التلفزيونية المرئية والصحافية المكتوبة عرضت الأمر بشكل أعطى انطباعاً بأن ما أقدم عليه ذلك النجم التلفزيوني له ما يُبرره! وقال الباحثون إن فعل الإقدام على الانتحار تم تصويره وعرضه كما لو يكن شيئاً مقبولاً ومفهوماً كحل لمعاناة الضحية مما ألم به. وهو ما تضمن أيضاً تبرير علاقته العاطفية خارج نطاق زواجه والتخبط في النجاح الذي مر به برنامجه التلفزيوني في الفترة الأخيرة.
وتبين للباحثين أن نسبة الإقدام على الانتحار في فترة السنتين، التي تلت اكتشاف جثة ذلك النجم التلفزيوني والتغطية الإعلامية التي رافقتها بكثافة، ارتفعت بمقدار 55% مقارنة بنفس المدة الزمنية خلال السنتين السابقتين، أي عام 2003 و 2004. وأشار حوالي 90% من هؤلاء الذين أقدموا على محاولات الانتحار أنهم تابعوا عن كثب تلك التغطية الإعلامية لانتحار النجم التلفزيوني المشهور. واعترف صراحة حوالي 24% بأنهم تأثروا بها بشكل بالغ في محاولة الإقدام على الانتحار التي ارتكبوها. وعلى عكس ما قد يظنه الكثيرون، فإن الرجال كانوا أشد تأثراً في تقليدهم الأعمى لمحاولة الانتحار. وتحديداً كانت نسبة الرجال المتأثرين ضعف نسبة النساء! كما تبين للباحثين أن من سبق لهم محاولة الإقدام على الانتحار كانوا أشد تأثراً، إذْ قال 50% منهم إن متابعتهم التغطية الإعلامية لانتحار النجم ذاك ساهمت في إثارة الرغبة لديهم بتكرار القيام بمحاولة الانتحار، في حين أن الأشخاص الذين لم يسبق لهم الإقدام على الانتحار، لم يُلاحظ بينهم ارتفاع في نسبة الإقدام على محاولات الانتحار، حتى وإن كانت تنتابهم بالفعل أفكار الإقدام عليه.
وذكر الباحثون أن أكثرية المشاركين في الدراسة قالوا إن التغطية الإعلامية لكيفية موت ذاك النجم التلفزيوني دفعتهم إلى تقليده ومحاكاته في فعله. ليس هذا فحسب بل أيضاً في استساغة ذلك التصرف وتصنيفه ضمن ما هو مقبول وفق المبادئ العقلية!. وقال آخرون منهم إن مجرد سماعهم بانتحار أحد المشاهير أعطاهم إما شعوراً بفقدان الأمل أو مزيداً من التفاصيل عن كيفية طرق الإقدام على الانتحار. ووفق ما قاله الباحثون في دراستهم ان هذه النتائج تُؤكد أن ثمة تداعيات بالغة ومفاجئة ذات طابع مسرحي دراماتيكي لكيفية وأسلوب العرض في التغطية الإعلامية لحالات انتحار المشاهير. بما يدفع غيرهم من عامة الناس إلى تقليدهم. وطالبوا الأطباء أن يتنبهوا في تلك الأوقات إلى أن منْ سبق له محاولة الانتحار من مرضاهم النفسيين عُرضة لتكرار الإقدام عليه. وهو ما يفرض مراقبتهم عن كثب آنذاك.