اجتمع مجلس العقلاء في دولة الصومال الديمقراطية بعد أن حل القحط في الأرض الزراعية وتوقف المطر عن الانهمار، وبقي الشعب يعاني من شحة الخبز والماء والمحروقات، وانتشرت الأمراض بسبب انتشار المزابل وصار الناس يموتون وهم يمشون، وصار الأخ يقتل أخاه من أجل حفنة من الأوراق النقدية التي لا يساوي ثمنها رغيف خبز يابساً.
قال أحد العقلاء في الاجتماع، إنني أقترح أن نقيم حربا مع اميركا، وسوف ينتصر علينا الأميركيون بالتأكيد في غضون ساعات ويحتلون بلدنا. عندها تنطبق عليهم قوانين المحتل ويكونون ملزمين بأن يوفروا لأبناء الصومال الخبز والماء والدواء. وبهذه الطريقة نحل أزمة بلدنا حيث لا خيار لنا سوى الحرب وضد الأميركيين بالذات لأنهم الأغنى بين بلدان العالم وبحجة مكافحة الإرهاب فسوف يقيمون عندنا ويكونون مسؤولين عن إطعامنا ومعالجتنا من الأمراض التي إستشرت في البلد.
اندهش العقلاء لهذه الفكرة الجبارة التي صدرت عن أحد أعضاء لجنة عقلاء القوم. وكانت قوانين العقلاء أن يكون التصويت بالإجماع على أي قرار يتخذونه، لكن أحد العقلاء لم يرفع يده بالموافقة، فسأله عقلاء القوم .. ألم تعجبك الفكرة العبقرية هذه؟ قال لهم إن الفكرة عظيمة جدا وواقعية ولكن ماذا لو أقمنا الحرب ضد أميركا وانتصرنا عليهم؟
لم تمر سوى ثوان حتى نزلت الأيادي المرفوعة بالموافقة وساد الوجوم عقلاء القوم إذ أن فكرة الانتصار أرعبتهم حينها سوف يحتلون أميركا ويكونون ملزمين بإطعام الأمريكيين ونشر الديمقراطية في صفوفهم بموجب قوانين الاحتلال الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة. فأرجئت فكرة الحرب مع أميركا.
وبدون أن يعتدي الصوماليون على أميركا وبدون أن يقيموا حربا ضدها، غزت أميركا الصومال. واستبشر عقلاء القوم خيرا، حيث غزتهم أميركا بدون أن يحاربوها. بدأ العقلاء ينتظرون صومالا جديدا حرا ديمقراطيا، تنتهي فيه الفوضى وتتلاشى الأصولية الدينية وينسحب العنف القبلي ويزدهر الصومال الفقير وتسوده حياة ديمقراطية تنتعش فيه العقول وتبدع لأنها سوف تملك القوة والألق بعد أن هدها الجوع والفزع. إنتظروا عاما وعامين وثلاثة وأربعة.. والأميركيون لم يقدموا خبزة لجوعان ولا ثوبا لعريان، بل صاروا يحفرون في بعض مناطق الصومال معتقدين بوجود الزئبق الأحمر. وكانت ثمة شاحنات تروح وتجيء وتغادر الصومال وتعود. ولم ينشىء الأمريكيون إذاعة ولا قناة تلفزيونية تقدم دروسا في الديمقراطية، بل تشكلت فرق سرية تقوم بقتل علماء ومفكري وأساتذة الصومال ومبدعيه. وتصفي جسديا العالم بإعتباره كافرا والمعلم باعتباره محرضا والفنان بإعتباره مطربا للهو ثم بدأت الفرق الغريبة التي تشكلت بقتل الحلاقين لأن المؤسسات الأصولية التي نشأت تريد للناس أن تتهدل لحاهم وشواربهم وضفائرهم وممنوع الحلاقة وممنوعة الزينة. وبدأت البلاد تعيش بدون كهرباء على أساس أن نور الحياة يكفي وهم يرون الأضواء ليلا تزهو في المنطقة (السوداء) من مقاديشو العاصمة، وهم يرون مجموعة من عقلاء القوم يزورون تلك المنطقة التي أطلقوا عليها اسم المنطقة (السوداء) اعتزازا بسحنة بلادهم.
ضاعت الصومال وتفرّقت شيعا وأحزابا .. والعشيرة صارت عشائر. والحزب صار أحزابا والأحباب تفرقوا .. صار الجار يكره جاره وسادت سياسة الكنتونات العشائرية والقبلية والمذهبية واصبحت هي السائدة في البلاد. الذين كانوا يتناولون وجبة طعام واحدة في اليوم حرموا منها وبدأ الناس يجدون في الجنود الأميركيين زادا دسما فتشكلت فرق الاغتيالات للاستيلاء على السيارات والنقود وتصفية الجنود وصارت فرق الموت تخطف أبناء العقلاء وتطالبهم بالفدية وهم يرونهم يغتنون من المنطقة السوداء ثراء فاحشا، وبدأت التساؤلات تأخذ صيغة المنطق وتأخذ صيغة الحق والمشروعية. لم يحسن الأميركيون التصرف ولم يحسنوا الأداء ولم يقرؤوا التأريخ ولم يتعضوا الناس ولم يتعضوا من تجارب الماضي وحق الشعوب في الحياة الكريمة وفي الحرية، والأكثر أن عقلاء القوم لم يكونوا عقلاء حقا ولا يستحقهم البلد ولا الناس الطيبون والفقراء الذي باتوا بلا أمل .. ومعذرة عن الخطأ الحاصل في كتابة اسم البلد!